ساحات عدن تسير إليها الملايين أمام العالم، وأصوات الحشود تشق الفضاءات المفتوحة وتجبر العيون النافرة أن تتجرع هيبة المنظر وتلك الحائرة أن تتأمل في حقيقة الأرض والإنسان. هكذا بدأ الأمر وهكذا يواصل أبناء الجنوب إصرارهم لتظهر عدن بحالة غير مسبوقة وربما إلى مستهل مرحلة جديدة.
لم يكن أحد يتمنى أن تسيل فيها قطرة دم واحدة أو ينتابها وجعٌ، لكن التراكمات السيئة لم تعفها من نتائجها، ومع ذلك سوف تتجاوز عدن ابتلاءاتها لأنها جينياً مدينة الشمس التي لا تساوم على حريتها.
عدن لا تقبل أن تظل تابعة لمركز خارج إرادتها أو أن تحكمها طائفة سياسية أو أن تنكمش بين فكي التطرف العقائدي بمذهبَيْه، ثم تنتظر عقود جديدة ليأتي صراع آخر يحييها أو يميتها، فهي لم تنشأ ولم تعش قرب الضوء وجوار البحر إلا لتبقى مدينة الحضارة والثقافة والانفتاح. كما أنها لن تنحصر في جهة أو عرق أو ثقافة ضيقة.. فأجداد الواقفين على بقائها مدينةً للمستقبل مشوا إليها عبر الزمن، من كل الجهات.. لم يأكلوا فطيراً مقدساً لكنهم اقتسموا أرغفة الحياة وأنبتوا الأرض حداثةً وجمالاً. انصهر فيها الجنوب والشمال ولم يكونا بلداً موحدا يطلب من الدنيا أن تردد نشيدة، فكانت المشترك الحي الذي تجسدت فيه روح الإخاء والنبل.
وبشكل عام وقبل أن تنهب تلك الروح ظلالُ الأزمنة الشاقة في سفر الوحدة المغدورة، عاش أهل الجنوب والشمال تجاوراً وترابطاً وجدانياً حتى مع اختلاف الأنظمة وأزماتها، ولم تنتشر شبكات الصدوع وتتعمق إلا بعد الوحدة المرتجلة وحروبها وما رافقها من التكفير و الاستعلاء و الاستقواء حتى تعقّد كل شيء وتم القضاء على ما بقي من نوايا حسنة. لهذا حان الوقت أن تُبنى الآراء والمواقف على أساس واقعي لإيجاد بديل إيجابي يحفظ للشمال والجنوب حقوق الحياة المشتركة والتكامل والإخاء والمحبة.
ولهذا يا أخوتنا الأعزاء، مليونيات عدن تقول: لن تكون هناك بئر جديدة بعد أن خرج يوسف من غياهب الجُبِّ واجترح الدروب وعاد لأبيه، أنتم جميعا بحاجة إلى مراجعات جادة تقوم على الاعتراف بحق الناس في اختيار مستقبلهم فلن تبقى وحدة غارقة في وحول الدم ولن يجتمع الكل على قواسم قوى أثخنتهم جراح وتشظي ولن تُكبّل المصائر بأحلام دفنها التاريخ الإنساني وتجاوزه.
عدن ستعود مثلما كانت عاصمة الجنوب، لن تختفي في بلاد البنط، بل تبقى بين البحر والبحر وبين الرملة والرملة وبين البركان والأمواج الزرقاء بذراعيها البرّيّتين الممتدتين شرقا وغرباً كجناحي طائر أسطوري أرهقته الشمس فهبط في أحد عصور الحكايات الأرضية ليستقر قبالة الشاطئ وتنبت على ظهره روح عدن. ولن يتولاها قوم من خارج التاريخ بل تعود إلى فطرتها وخياراتها وقيمها يتعايش فيها الجميع ويجتهدون ليتجاوزوا ما رسب في النفوس جراء الأزمنة الغبراء.
الجنوبيون اليوم أمام مهمة الحفاظ على الأمن وحفظ الحقوق والحريات ولغة التسامح ونبذ العصبيات والمناطقية والمصطلحات المشينة والألقاب المنفلتة التي أفرزتها مراحل سابقة، وأن لا تُعطى فرص حقيقية للإعلام المضاد بأن يثير حرائقه في النسيج الاجتماعي أو يحرف الحقائق أمام الداخل والخارج.
لقد تحطمت المراهنات على شق صفوف الجنوبيين وأخفقت جهود كبيرة بُذلت لإظهار الجنوب للعالم بأنه ضعيف مجزأ البنية والهدف لا يمتلك القدرة على الوقوف إلا تابعاً، لكنه أثبت في كل مرحلة أنه مؤهل لمواجهة التحديات الأمنية والسياسية دفعة واحدة وأن نضالاته السلمية لم تذهب مع الريح لكنها تحولت إلى طاقات نوعية انعكست في القدرة على الدفاع والتضحية ومواجهة تعقيدات المشهد السياسي وتقاطع الأهداف الداخلية والإقليمية برؤية ثابتة ومتحررة من الوهم.
كما اثبتت كل مناطق ومحافظات الجنوب قدرتها على التلاحم والصمود والتضامن دون استثناء ولا فضل لمنطقة على أخرى فالجميع شاركوا ووقفوا على خط الدفاع ومثلوا جميعاً حائط الصد لمنع تحويل بلادهم الى ساحات اقتتال كما شاء لها الآخرون أن تكون لتبقى ضعيفة متهالكة في قبضتهم.
عدن تبحث اليوم عن “فجر مغسول بعد ليلة ماطرة” وعن حلم رسمته في صباها وعن شمس حرة تتكور على راحتي أفقها وبحر يأتي بالدنيا إلى شواطئها وتلال تمتص عناء الأصياف المبللة بالرطوبة المتوهجة، وعن أغاني الصباح وعطر المساء.. لأنها المدينة التي تحملت الكثير فوق طاقاتها فأصبح لزاما أن تعاد لها مكانتها وريادتها وأن يُزال من أمامها كل مسببات الخطر ليصبح ما حدث مؤخراً آخر الأوجاع.
ما يزال في الطريق “الكثير” بلغة السياسة وما تزال السفينة عرض البحر، لكن الواقع تحرك بقوة هذه المرة واقترب من مسارات الحصاد الفعلي، وهناك حاجة إلى بناء حقيقي وإلى ثبات وحماية الإنجازات وإلى عقول سياسية منفتحة وإلى أشياء أخرى.