خلال خمس سنوات من القتال في اليمن اكتنف خلالها مواقف دول التحالف الغموض والالتباس، فلم يعد ممكننا التنبؤ بمالات الحرب فالأهداف المعلنة يبدو أنها لم تعد قابلة للتطبيق على أرض الواقع والأمور بدأت تتجه في مسار آخر، ولم يعد أمامنا سوى التكهن وتطبيق نظرية الاحتمالات على أرضية المشهد الجيوسياسي الحالي وموقف دول التحالف من الأطراف السياسية.
كيف ساهمت السعودية في ترسيخ نظام الحكم الطائفي في اليمن الشمال؟
ساهمت المملكة العربية السعودية في صياغة نظام الحكم في الجمهورية العربية اليمنية شبيهه بصيغة اتفاق الطائف اللبناني من خلال ترسيخ نظام طائفي يتم التزاوج فيه بين الجمهوريين والملكيين الذي تمخض في نتائج مؤتمر خمر 1972م يمنح تقاسم السلطة بين الملكيين والجمهوريين في الظاهر ولكن في الباطن كان التقاسم على أساس طائفي يكون الجيش والحكم (الرئاسة) للزيود والسلطة التشريعية لقبيلة حاشد ممثلة بالشيخ عبد الله بن حسين الأحمر (رئيس مجلس الشورى والنواب) وتكون السلطة القضائية والمحاكم للهاشميين بينما يكون للشوافع تمثيل رمزي في السلطة التنفيذية (برئاسة عبد العزيز عبد الغني) وأيضاً تعطى التجارة للشوافع أو اليمن الأسفل، على أن يستبعد المعارضين نهائياً من الحكم والمقصود كل الأحزاب السياسية بل وصل الأمر إلى تجريم العمل الحزبي والسياسي واتهام من يقوم به بالعمالة. واتفق الطرفين على اسقاط الجنوب وضمها لهذا النظام وأوكلت المهمة للشيخ عبد الله بن حسين الأحمر الذي فشل في المهمة في حربه على الجنوب في عام 1972م فقد كان النظام الجنوبي قوياً يستحيل اختراقه بالطرق التقليدية المباشرة. وكان هذا الحال سيستمر مدى الحياة إلى إن تغيرت التكتيكات في احتواء النظام الجنوبي ذو الميول اليسارية والمختلف تماماً مع نظام الشمال.
هل تغيرت الصيغة الطائفية لنظام الحكم بعد الوحدة المشؤومة؟
وعندما باتت الظروف مهيئة للنظام الشمالي دخل الطرفان الشمالي والجنوبي في وحدة اندماجية. لكن صيغة النظام الطائفي لم تكن مقبولة لدى النخب السياسية الجنوبية فكان لابد من فرض صيغة معينة تجد قبولاً لدى الجنوبيين وكانت الديمقراطية والحزبية والمجتمع المدني هي صيغة المناسبة بما فيها من مغالطات فهي مرفوضة لدى نخب الحكم الشمالية ولكن تم القبول بها تكتيكياً. وكانت السنوات الأولى من الوحدة المشؤومة كفيلة بإن تظهر هذه الحقائق، وجاءت حرب 1994م التي تم فيها استعادة نظام الحكم الطائفي فتم تعديل الدستور لصالح بقاء الحاكم الدكتاتوري المطلق وأصبحت الأحزاب مجرد ديكور وسارت الأمور كما هي في السابق مع تعديل بسيط، فبدلاً من أن تكون رئاسة الحكومة لليمن الأسفل أصبحت للجنوب واستحداث منصب نائب الرئيس للزمرة التي كان لها دور كبير في غزو الجنوب في حرب 1994م ولكنه لم يكن لتمثيل الجنوبين بل كان عبارة عن مكافأة للزمرة التي سلم ملفها للجنرال العجوز علي محسن الأحمر والذي استفاد منهم في تنظيم القاعدة ويتم استغلالهم حتى يومنا هذا لمنع الجنوبيين من الذهاب إلى خيار الاستقلال.
لماذا ظلت السعودية على موقف ثابت في ترسيخ النظام الطائفي في اليمن؟
والسؤال هنا لماذا لم تحسم السعودية موقفاً إيجابياً تجاه الجنوب آنذاك؟ هناك سببين كان يمنع السعودية من الانحياز إلى صف الجنوبيين، الأول هو إنها لم تكن متحمسة لتنفيذ وثيقة العهد والاتفاق وكان بإمكانها الضغط تجاه تنفيذه ولكنها لم تكن تكترث بتطبيق الدولة المدنية والتعددية الحزبية ونظام الدولة الاتحادية في اليمن وهذه طبيعي لأن السعودية دولة ملكية وهي تخشى المد الثوري والتغيير الديمقراطي أما السبب الثاني فهو استثمارها لحرب 1994م التي كادت أن تؤدي إلى الانفصال في ظل وقوف دول الخليج والجامعة العربية والمجتمع الدولي مع خيار الشعب الجنوبي وعدم فرض الوحدة بالقوة ولكن السعودية أدارت ظهرها لكل تلك المناشدات فظلت تتفاوض مع الطائفة الزيدية وكان رجلها القبلي عبد الله بن حسين الأحمر هو الوسيط في تلك المفاوضات التي تمخضت عن استقطاع اجزاء كبيرة من الجنوب شملت اجزاء من شبوة وحضرموت والمهرة تم التنازل عنها مقابل تكريس الصيغة الطائفية التي تمنح الزيود حكم اليمن، إضافة إلى إن السعودية كان لديها فوبيا من النظام الجنوبي وتخشى عودة النظام اليساري وهذا الشعور يكرسه او تغذيه جماعة الإخوان المدعومة قطرياً فهي دائماً ما تتهم الانتقالي به وكأنه وريث للنظام الجنوبي السابق مع إن الانتقالي ليس حزباً سياسياً ولكنه تكتلاً وكياناً سياسي حامل للقضية الجنوبية. عموماً كل ذلك تاريخ ولكن السؤال الأهم اليوم هو كيف يمكن أن نقيم أداء المملكة العربية السعودية بعد مرور خمس سنوات من الحرب؟ وهل أصبحت أهدافها الاستراتيجية ومواقفها السياسية من أطراف الصراع واضحة؟
لماذا تعتمد السعودية على أدوات قديمة وعاجزة في إدارة الحرب؟
مع صعود نجم الأمير الشاب محمد بن سلمان ولياً للعهد في المملكة العربية السعودية فإن كثير من التغييرات حدثت في المملكة والتي تمثلت في اتجاهين: الأول هو إعلان الطلاق مع هيمنة المؤسسات الدينية واشراكها في نظام الحكم واتخذ قراراً شجاعاً يحضر نشاط جماعة الإخوان في المملكة، والثاني فهو إدخال المملكة في عصر التكنلوجيا والاستثمار وهذا واضح من خلال رؤيته 2030م وكل ذلك سيضع حداً لقوى الظلام التي تسعى إلى بقاء المملكة في العصور الوسطى. إذن هل يمكننا أن نلمس تغييراً في التعامل مع الملف اليمني؟ أم إن لديها ثوابت لا يمكن تغييرها؟ الحقيقة إن أداء المملكة خلال خمس سنوات من الحرب يمكن وصفه بالتقلبات والارتباك في بعض الأحيان وهذا يمكن قراءته من خلال عدد من الممارسات على أرض الواقع. الأول هو إصرارها على بقاء أو لنقل التمسك بالجنرال العجوز علي محسن الأحمر نائباً للرئيس وهو الفاشل وسبب كل الهزائم والنكسات في اليمن وتطويل أمد الحرب وهذا ما يحرج المملكة ويلصق بها كل الاخفاقات ولكن لا يعرف لماذا التمسك بهذه الأدوات القديمة والعاجزة؟ عند تعيين الأحمر جرى التسويق بإن الرجل لديه علاقات قبلية واسعة يمكن سحبها من دائرة التأثير القبلي المؤيد للحوثيين إلى جانب السعودية، علماً إن هذه القبائل ظلت تستلم مرتبات من السعودية لعقود، هذا بالإضافة إلى إنها تعتبر الرجل سياسي محنك ويمتلك القدرة على تشغيل وتوجيه جماعة الإخوان وكل رموز المعارضة وبعض مكونات الحراك الجنوبي أكثر من الرئيس هادي نفسه. كل تلك الأمور فشل فيها الرجل بل إنها سارت في اتجاه معاكس تماما لما تريده السعودية بحكم ولاءه للطائفة الزيدية. ولكن هناك احتمال نرجو أن يكون خاطئاً فالرجل هو الوريث قبلياً للفقيد القبلي عبد الله بن حسين الأحمر والذي كان طيلة عقود وسيطاً للسعودية مع النظام وكان له دور في تسوية الحدود والتنازل عن جزء كبير مساحات اليمن لصالح المملكة، فربما تريد السعودية من الأحمر لعب نفس الدور وهو أن يكون وسيطاً للسعودية مع الحوثيين.
هل تنجح السعودية في تجنيب الجنوبيين فتنة وتوحدهم كما هو المطلوب من اتفاق الرياض؟
أما الأمر الثاني وهو الأهم وهو السكوت عن جماعة الإخوان المدعومة قطرياً وهي تسلم معسكراتها كاملة ومخازن اسلحة للحوثيين، وكذلك تحويل جماعة الإخوان بوصلة المعركة نحو عدن والسماح لحشودها العسكرية من القدوم إلى شقرة والتهديد بدخول عدن وآخرها كان المناورة العسكرية في خطوة مهينة للتحالف والسكوت الرهيب عنه ولا يمكن تفسيره سوى إن السعودية قد تكون راضية عن هذه الحشود في شقرة لخلق توازن عسكري مع المجلس الانتقالي. لقد صنف المفكر والسياسي المخضرم د محمد حيدرة مسدوس الحشود المتواجدة في شقرة بأنها فريقين الأول وسماهم خصوم القضية الجنوبية وهم القوى الشمالية (وهي خصومة أبدية) والثاني وهم الفريق الجنوبي المختلف مع الانتقالي (وهي خصومة آنية). والفريق الأول هو سبب المشكلة والتوتر والاحتكاك الحاصل بين الجنوبيين فهي تشترط خروج طارق عفاش من الساحل الغربي وهو اشتراط تعجيزي لإن الكل يعرف إن التحالف هو من جاء بطارق عفاش وليس أبناء الجنوب وهو متواجد على أراضي شمالية وقد جاء لقتال الحوثيين واقتحام صنعاء أما القوات المتواجدة في شقرة فقد جاءت لقتال الجنوبيين واقتحام عدن ومن غير المنطقي اشتراط خروج القوات من شقرة بخروجه. وأشار أيضاً المفكر الجنوبي مسدوس أيضاً إن عودة هذه القوات إلى أراضيهم هي مهمة الرياض وهي التي يجب أن تعمل على توحيد الجنوبيين لإن توحدهم مفيد لها ويسهل أمور الحل في الجنوب والشمال فالحل العقلاني هو عودتهم إلى مناطقهم ومن حيث جاءوا وهذا سيجعل الجنوبيين يتجنبوا الفتنة فيما بينهم. اليست هذه الصورة الواقعية للوضع في شقرة كفيل أن يوحد الجنوبيين ويجعلهم أكثر إدراك بالفخ المنصوب لهم.
إلى أي مدى تتطابق رؤية دول التحالف مع قناعات الدول العظمى؟
هناك موقف واضح لبريطانيا العظمى خصوصاً من القضية الجنوبية الذي ترجمه السفير البريطاني في مقابلة مع قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود مع الاعلامي حسن جمول الذي كان متوتراً وحاول اقناع السفير البريطاني إن قوات الانتقالي هم مليشيات ارهابية وخارج مؤسسات الدولة فيرد عليه السفير قوات الانتقالي تحارب الارهاب وهي جزء من الشرعية وتحارب الارهاب. والسفير نفسه هو من قال إن الواقع على الأرض يفرض معادلة جديدة بعيداً عن المرجعيات الثلاث يسمح بقيام دولتين، الدولة المتوكلية في الشمال بحدود 1962م والدولة الجنوبية بحدود 1991م وبالتالي إيقاف الحرب على هذا الأساس. اما الدولتين الأخرتين وهي روسيا والصين فكلاهما تريدان دولة جنوبية موحدة وهي تدعم اتفاق الرياض وهذا ما دعا الرئيس عيدروس الزبيدي أثناء زيارة روسيا الذي أكدت المفاوضات بينهما على ضمان المصالح الحيوية لروسيا في الجنوب. كما لا يمانع الجنوبيين من إقامة علاقات تعاون مع الصين وانجاح مشروع الحرير الذي سيعود بالفائدة للجنوبيين. ولكن السؤال الأهم هنا ما هو الموقف الأمريكي والسعودي من وحدة الجنوب. يبدو إنهما لا يزالان مع دولة اتحادية من ستة أقاليم وهذا للأسف لا تدعمه الوقائع على الأرض ففي حين إن الحوثي على وشك استعادة الدولة المتوكلية واعلان الحكم السلالي بسبب تخاذل الإخوان، إلا إن السعودية لا تزال على أمل من تقسيم الجنوب إلا إقليمين هما عدن وحضرموت ولكن هذا لن يتم إلا إذا أشعلت اقتتالاً أهلياً بين الجنوبيين وهذا ما لا تريده السعودية ولكن هناك شكوك في نوايا السعودية التي تحاول تعزيز بعض القوى في أبين إضافة إلى محاولات السيطرة على مطار عدن، والسكوت عن انتشار الإخوان في وادي حضرموت والحشود في شقرة. من جهة أخرى نجد الولايات المتحدة والإمارات تنظر إلى القوات المتواجدة في شقرة بأنها عناصر إرهابية تستعيد تموضعها في شقرة والوادي وتحديداً في مناطق النفط والغاز. فهل يمكن اعتبار ذلك تناقضاً بين أمريكا والسعودية أم تبادل أدوار وأي كانت الأهداف فإن إنقاذ الجنوب هو في الأساس بيد الجنوبيين أنفسهم في نزع فتيل الفتنة بينهم والعودة فوراً لتنفيذ اتفاق الرياض الذي جاء لإزالة التوتر بين الجنوبيين ومستقبل الجنوب يقرره الجنوبيين بالحوار وليس بالاقتتال. ونحن على ثقة إن الجنوبيين في شقرة يرفضون العقيدة القتالية العدائية لإخوانهم الجنوبيين وهذا ظاهر من خلال الانشقاقات الظاهرة في صفوف القوات الجنوبية.