القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (15-11)

القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (15-11)

قبل 3 سنوات

11

 

الفصل الثالث

 

مراحل تطور وتبلور ملامح القضية الجنوبية

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المرحلة الثانية: وهي مرحلة التململ الشعبي العشوائي أو قليل التنظيم وجاء مع أواخر التسعينات، وقد اقترن ببدء ظهور "اللجان الشعبية" الجنوبية، التي شملت عدة مدن ومديريات ومحافظات جنوبية وتبوأتها شخصيات اكاديمية وإعلامية َوقادة حزبيون وعسكريون سابقون، وقد عوملت هذه اللجان بقسوة وعنف من قبل اجهزة الأمن حيث اعتقل معظم قادتها وتعرضوا لحملات تعذيب نفسي وجسدي، كما جرى الاعتداء على بعضهم على طريقة العصابات مثلما جرى مع استاذ الفلسفة في جامعة صنعاء الدكتور ابوبكر السقاف وهو احد رموز تلك اللجان وابرز قياداتها حينما جرى اختطافه وزميله القيادي في اتحاد الأدباء والكتاب الأستاذ زين السقاف من قارعة الطريق في صنعاء وأخفيا لعدة أيام ثم خرجا يحملان آثار التعذيب الجسدي والنفسي، وقد انتشر خبر تعرضهم للصعق بهراوات كهربائية وغيرها من الوسائل المحرمة من قبل خاطفيهم، كما أفاد الدكتور السقاف نفسه، ولم يتم الإفصاح عمن قام بالاختطاف والتعذيب، لكن الجميع يعلم أن تلك التصرفات هي سلوك مألوف لدى أجهزة النظام في صنعاء حينما تفتقد إلى الوسيلة أو حتى الحيلة القانونية التي قلما يعتد بها لمواجهة من يعتقد أنهم مخالفون للنظام.

 

ويشار إلى أن اختطاف الدكتور أبوبكر السقاف وزميله زين السقاف قد جاء على خلفية العديد من المقالات والكتابات التي تميز بها الدكتور أبو بكر بعيد حرب 1994م ومن بينها مقالته المشهورة التي نشرها عبر صحيفة "الأيام" التي كانت تصدر أسبوعيا من صنعاء بعنوان "الاستعمار الداخلي"، التي ندد فيها بسياسات ما بعد الحرب تجاه الجنوب والجنوبيين معتبراً إياها نوعا من سياسات الاستعمار الآتي من لداخل.

 

ومن أطرف ما يشاع حول هذه الحادثة أن الرئيس حينها علي عبد الله صالح اتصل بالمرحوم المناضل عمر الجاوي، رئيس حزب التجمع الوحدوي والشخصية الوطنية والسياسية والأدبية المعروفة، متسائلا بغضب: هل قرأت ما كتب ابن عمك؟ (يقصد الدكتور أبوبكر السقاف باعتبار الأستاذ الجاوي هو الآخر من بيت السقاف والاثنان من مواليد مدينة الوهط بمحافظة لحج).

 

فرد عليه الأستاذ الجاوي:

 

ـ ماذا كتب؟

 

قال الرئيس:

 

ـ إنه يسمينا بالاستعمار الداخلي؟

 

لكن المرحوم الجاوي رد عليه بطريقته الساخرة المعهودة عنه:

 

ـ لا والله الدكتور أبوبكر غلطان؟

 

قال الرئيس مبتهجاً:

 

ـ شفت كيف؟

 

لكن المرحوم الجاوي واصل:

 

ـ هو كان يُفتَرَض أن يقول "الاستعمار الخارجي"!!!

 

فغضب الرئيس ثم أغلق الهاتف.

 

ومن المعروف أن الأستاذ عمر الجاوي كان من أكثر المتحمسين لمشروع الوحدة الاندماجية، وقد كتب قبل 22 مايو عشرات المقالات التي يدعو فيها إلى الوحدة الفورية الاندماجية بين البلدين، دونما تأخير أو تسويف، وحتى أثناء الحرب والقصف على عدن وتدمير منشأة الكهربا ومحطات المياه ومصفاة عدن، من قبل قوات صنعاء، وعند إعلان "جمهورية اليمن الديمقراطية"، في "21 مايو" 1994م كان الجاوي مع قلة قليلة ممن خرجوا في عدن يتظاهرون رافضين لما سمي "بإعلان جمهورية اليمن الديمقراطية" برئاسة الرئيس علي سالم البيض ونائبه عبد الرحمن الجفري مطالبين بالتمسك بـ"الوحدة اليمنية".

 

وفي أبين جرى اعتقال رئيس اللجنة الشعبية في المحافظة الأستاذ الجامعي والشخصية السياسية التاريخية د. سعودي علي عبيد، ونائبه عامر سيف الصوري، وتعرضا للتعذيب ومحاولة انتزاع اعترافات منهما بالإكراه، وهذا ما جرى مع بقية قيادات اللجان الشعبية في عدة محافظات

 

ومع نهاية العام 2003م وبداية العام 2004م ظهر ما سُمِّي بـ"ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية" في صنعاء، الذي ضم عددا من ممثلي النخبة السياسية الجنوبية التي وقفت مع النظام بعد 1994م ومنهم وزراء ونواب برلمانيون ونواب وزراء ومدراء عموم وقادة عسكريون، وقد قوبل هذا الحدث بحملة تشهير مصحوبة بسلسلة من الاتهامات بالشطرية والانفصالية والمناطقية، ووصف بعض قادة السلطة وإعلامييها قيادات هذا الملتقى بـملتقى "قبائل 7/7" ثم جرى تشتيت من أعلنوا هذه الملتقى بين مواقع مختلفة بعضها أقل مما يمكن أن يستحقوه، بين أعضاء في مجلس الشورى (الذي كان اسمه المجلس الاستشاري) وهو هيئة كان يراد لها أن تكون الغرفة الثانية في البرلمان، يتم اختيار أعضائها من خلال التعيين من قبل رئيس الجمهورية، وبين من عينوا سفراء أو قائمين بأعمال، ولم يعُد للملتقى أي حضور يذكر بعد ذلك.

 

وعموما فإن هذه المرحلة قد تبدت خلالها المزيد من علامات التململ والرفض للوضع الذي أنتجته الحرب الظالمة على الجنوب، فعلى صعيد الساحة الجنوبية نفسها التي لم تعرف السكينة إلا على شكل الهدوء الذي يسبق العاصفة كانت تلك التحركات التي سبقت الإشارة إليها علامة رفض معلن لتداعيات ما بعد الحرب، وعلى صعيد تحالف الغزو بدأت مصالح طرفيه الرئيسيين تتقاطع وتتصادم وتعلن عن نفسها بشكل أو بآخر، حينما انفك حزب التجمع اليمني للإصلاح من التحالف الحاكم وشيئا فشيئا اتجه نحو أحزاب المعارضة، التي كانت تقتصر على ما عرف بمجلس التنسيق لأحزاب المعارضة، الذي كان قد تأسس بعيد الحرب والذي لم تصل مستوى معارضته للحرب إلى مستوى الإقرار بحق الجنوب كوطن وشعب، في تقرير طريق مستقبلهما ، وهو أمر مفهوم الأسباب والخلفيات، حيث كان الهوس بموضوع "الوحدة اليمنية" ما يزال يهيمن على العقلية السياسية اليمنية، ولم يجرؤ أخد على تناولها ولو بالنقد أو بمحاولات التصويب ما عدا ما كنا قد أشرنا له من دعوات الحزب الاشتراكي إلى "إزالة آثار الحرب" و"إصلاح مسار الوحدة" وإجراء" مصالحة وطنية شاملة".

 

وبقدر ما مثل انتقال حزب "التجمع اليمني للإصلاح" إلى تحالف المعارضة تحت مسمى تحالف أحزاب "اللقاء المشترك" ، دفعة جديدة لتعزيز صفوف المعارضين لانفراد حزب الرئيس علي عبد الله صالح "المؤتمر الشعبي العام" بالسلطة وتقليص مساحة المؤيدين لنظام الرئيس صالح، بقدر ما أضعف ذلك حضور القضية الجنوبية في نشاط المعارضة، حيث غدا الحديث عن الحرب وآثارها وما تعرض له الجنوب من سياسات النهب والسلب والإقصاء والتهميش، لا يكاد يذكر إلا لماما وبمفردات قابلة لأكثر من تفسير، بل ولقد كان كاتب هذا البحث شاهداً على مواجهات مباشرة بين ممثلي الحزب الاشتراكي وممثلي التجمع اليمني للإصلاح عند ما كان الحديث يدور عن الحرب ونتائجها المأساوية على حياة أبناء الجنوب، واشتداد معاناتهم جراء تلك السياسات، ويزداد الأمر سخونة عندما كان الحديث يتعرض للنهب والناهبين والمنهوبات.

 

 

 

القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (12)

 

 

 

 

 

الفصل الثالث

 

مراحل تطور وتبلور ملامح القضية

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

المرحلة الثالثة: وكانت مرحلة الانتفاضة الشعبية التي تصاعدت تدريجيا ولكن بسرعة فائقة بدءُ بـ"لقاء التصالح والتسامح" في مقر "جمعية ردفان" بعدن يوم 13 يناير 2006م الذي مثل بدايتها الأولى، هذا اللقاء الذي ذاع صيته بسرعة البرق وجرى تبادل الأخبار عنه باعتباره لقاء جمع عدداً ممن حسبوا على طرفي صراع يناير 1986م واعتبر المتابعون هذا الحدث على إنه قد شكل خطوة على طريق طي صفحات الصراعات الجنوبية – الجنوبية.

 

كان يمكن لهذا الحدث أن يمر ثم يُنسى بسرعة أو تتصاعد أخباره ببطء شديد وقد يمر دون أن يشكل أي تهديد لسلطة الحكم في صنعاء وممثليها في الجنوب، لكن إقدام السلطة على إغلاق "جمعية ردفان" التي عقد لقاء التصالح والتسامح في مقرها، بحجة مخالفتها للقانون وممارستها نشاطا سياسياً قد أشعل الرأي العام الإعلامي والسياسي الجنوبي وصار الحدث محل اهتمام إعلامي لعدة أشهر لاحقة، وهو ما أقنع الكثيرين حتى ممن لم يتابعوا نتائج الاجتماع بأن سلطات صنعاء لا يروق لها تصالح الجنوبيين واقترابهم من بعضهم البعض ودفن خلافاتهم الماضية.

 

وبرغم الموقف السلبي للجنوبيين من العملية الانتخابية التي جرت بعد 1994م وهي العملية التي لم تحدث تغييرا قط في اللوحة السياسية في الجنوب، حيث هيمن على نتائجها المحلية والنيابية وطبعا الرئاسية تحالف الحرب وتحولت إلى ما يشبه المسرحية المملة التي لا جاذبية فيها ولا إدهاش، فإن الانتخابات الرئاسية في العام 2006م قد كانت أكثر إثارة من أي انتخابات سابقة.

 

مثل ترشح الشخصية الوطنية الجنوبية المهندس فيصل عثمان بن شملان في هذه الانتخابات، كمرشح باسم "تحالف أحزاب اللقاء المشترك"، لحظةً نوعية في مسار الممارسة الانتخابية عموماً وفي الجنوب على وجه الخصوص، وقد كانت المهرجانات الانتخابية لبن شملان تأخذ منحاً تصاعدياً في حشد المؤيدين والاستماع لأول مرة إلى خطاب سياسي راقي يتحدث بلغة سياسية خالية من الشتائم والاتهامات الزائفة والتجريح والتشهير، وقد راهن الجنوبيون على إمكانية حصول تغيير في توازن القوى لما يرفع الظلم القائم عليهم أو يعيد لهم الشعور بالانتماء إلى هذه الدولة، ويطوي عنهم زمن الشعور بالدونية والتبعية والإقصاء.

 

وقد جاءت النتائج الفعلية المعلنة، بأن فاز المهندس بن شملان، بغالبية ساحقة من أصوات الناخبين الجنوبيين، وتلك النتائج معلنةٌ ومدونةٌ في سجلات اللجنة العليا للانتخابات، وهو ما حمل رسالة ضمنية إلى تحالف 1994م بأن الجنوب قد مل البقاء في مربع نتائج 7/7، وإنه يتجه إلى التغيير بوسائل مختلفة عن تلك الأعمال المسرحية التي ظلت تمارسها سلطات صنعاء من خلال تبديل وزير جنوبي بآخر أو نائب بنائب أو حتى رئيس وزراء برئيس وزراء آخر، يأتون كلهم عبر انتقاء يقوم به الطرف الشمالي المتحكم في صناعة القرار، هذا في ما يتعلق بنتائج محافظات الجنوب بيد إن المعلومات اللاحقة، والتي وردت على لسان علي محسن الأحمر قائد الفرقة الأولى مدرع، قائد المنطقة العسكرية الشمالية الغربية حينها، وآخرين كانوا مقربين من نظام صالح في زمن الانتخابات، التي أدلوا بها أثناء انتفاضة الشباب السلمية اليمنية والتي أعلن على محسن تأييده لها، هذه المعلومات تقول أن بن شملان لم يفز فقط في محافظات الجنوب، بل وفي محافظات الشمال، وبموجب ما أعلنته الصحف والمواقع الإلكترونية فإن علي عبد الله صالح هدد بتفجير الموقف عسكريا إذا ما جرى إعلان النتائج الحقيقية والإفصاح عن فوز بن شملان وهزيمة الرئيس صالح.

 

المهم هنا هو أن غالبية الجنوبيين قد صوتوا للمرشح الجنوبي الذي راهنوا على أن يجدوا فيه أملهم، والمعبر عن تطلعاتهم، رغم أن المهنس بن شملان لم يتطرق لقضية الجنوب بالصورة التي عبرت عنها لاحقا مكونات الحراك السلمي الجنوبي، لكنه ومع حرصه على تناولها من منطلق خطاب أحزاب اللقاء المشترك، التي لم يتجرأ بعضها بالاعتراف بوجود قضية جنوبية، كان قد أعلن رفضه لنتائج الحرب وتمسكه بمحاربة الظلم واستنكاره لمفهوم " الفرع والأصل" الذي ورد مرارا على لسان الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر قبل وفاته وفي مذكراته المنشورة بعد وفاته.

 

وبغض النظر عن نتائج محافظات الشمال، فإن مؤشر النتائج الانتخابية في الجنوب قد مثل دلالة كبيرة فحواها أن الجنوبيين لم يعد مقبولا لديهم أن يتحكَّم قادة الحرب بمصير البلاد، وربما لو لم يكن المنافس لعلي عبد الله صالح جنوبيا وبوزن ومكانة الوزير السابق في الجنوب والشمال، والنائب السابق فيصل بن شملان، لكانت النتيجة مختلفة.

 

وبعد أقل من عام فقط على هذا الحدث جاء تشكيل جمعيات المتقاعدين العسكريين التي أتت بمثابة، عود ثقاب مشتعل رمي في هشيم مبلل بالزيت القابل للاشتعال، فما إن ابتدأت الجمعيات فعالياتها الاحتجاجية المطلبية بعشرات ثم مئات المعتصمين حتى تحولت خلال أسابيع إلى انتفاضة شعبية عارمة ذات مطالب سياسية ضمت عشرات الآلاف وأحيانا مئات الآلاف من العسكريين وغير العسكريين، من المبعدين من أعمالهم ومن الشباب حديثي العهد بالسياسة ممن أغلقت أمامهم كل أبواب الحصول على التأهيل والعمل أو بناء المستقبل، ثم تصاعدت تلك المطالب حتى وصلت للمطالبة ياستعادة الدولة الجنوبية كاملة السيادة بحدود العام 1990م.

 

إزاء هذه الانتفاضة الشعبية العارمة التي عمت كل محافظات ومدن ومديريات ومناطق الجنوب اتبع النظام في صنعاء سياسة الترهيب والترغيب ، أو كما يقولون سياسة العصاء والجزرة.

 

فمن ناحية أجرى النظام مجموعة من المحاولات لاستقطاب واسترضاء جماعات وتهدئة جماعات أخرى واكتساب جماعات جديدة، حيث سمح باستقبال مئات الضباط والقادة العسكريين والأمنيين المبعدين عن أعمالهم ومنحهم توجيهات بتسوية أوضاعهم وتعديل رواتبهم، ومنحهم الرتب أو الألقاب العسكرية بما يتناسب وفترات خدماتهم، وعين الكثير منهم في مواقع ومناصب شرفية واستشارية، لا عمل لهم فيها ومعظمهم لم يكونوا يطمعون في مناصب، بعد أن جربوا العمل في مراحل ذروة الشراكة الشمالية-الجنوبية مع هذا النظام فلم يفلحوا معه في شيء.

 

وفي سياق هذه الإجراءات والمعاملات كان الكثير من كبار القادة الجنوبيين العائدين من بلدان النزوح أو حتى المقيمين في الداخل يتعرضون لإجراءات بيروقراطية طويلة تشمل تعبئة استمارات والرد على أسئلة تحقيقية لم تخلُ من الإهانات والإذلال، مثل الأسئلة:

 

ـ مع من وقفت في حرب1994م؟

 

ـ لماذا حاربت؟ وفي أي جبهة؟ ومن كان قائدك؟

 

ت ماذا كان الهدف من محاولة الانفصال؟

 

ـ أين كنت طوال فترة الغياب هذه؟

 

ـ من أين كنت تعتاش وتنفق على أسرتك؟ وبمن التقيت خلال فترة النزوح؟

 

وكان ضباط وقادة وموظفون مدنيون كبار بدرجات قادة ألوية أو نواب وزراء أو مدراء عموم، ومنهم عمداء وعقداء في الأمن والجيش والاستخبارات وبعضهم حاملو شهادات الماجستير والدكتوراه من مختلف التخصصات يرتصون في طوابير على الشوارع، ليجيبوا على تلك الأسئلة مع محققين يطلون عليهم من نوافذ مرتفعة إما جنود حديثي عهد بالحياة العسكرية، أوصف ضباط أو ضباط بعضهم بسن أبناء أولائك القادة وأحفادهم، ليمارسوا عليهم هذه العملية المذلة، وفي حين تجرع الكثيرون هذه الكأس المرة ومرروها أو تقاعسوا عما فيها من مرارة فإن العديد من الضباط رفض استكمال تلك الإجراءات.وعاد أدراجه إلى النزوح أو إلى منزله في الداخل.

 

كما عمل النظام على إحياء منظمات جنوبية غير فاعلة معتقداً أنها ستجذب له مئات الآلاف من الأعضاء إلى صفه ومن ثم تقليص مساحة تأثير الحركة الاحتجاجية السلمية في الجنوب، لكن بعض قادة تلك المنظمات أدركوا اللعبة ودخلوا له من المدخل الذي يريد، فقدم بعضهم كشوفا بمئات وآلاف الأسماء، معظمها وهمية كأعضاء في هذه المنظمة أو ذلك الاتحاد، وحصل البعض على ملايين وأكثر وعاد أدراجه من حيث أتى.

 

وبمعنى آخر إن سياسة الاسترضاءات والترغيبات لم تكن لتفلح مع آلاف القادة والمدراء العسكريين والمدنيين الجنوبيين، لأنهم قد تعلموا الدرس وهو إن من لم يكن معك صادقا وأنت في عز قوتك وفي ذروة ثقتك بشراكته لك ، لن يكون صادقا معك وهو في ذروة تبختره وزهوه، وأنت مجرد موظف عائد إلى عمله بعد الهزيمة، وهناك سبب آخر أكثر بساطة ومنطقية لفشل سياسة الترهيب والترغيب أو شراء الولاءات، وفحواه إنه من أجل أن تنجح في سياسة الاسترضاء يجب أن تسترضي كل الجنوبيين، وهذا ما لا يستطيع النظام القيام ولا القبول به.

 

أما سياسة الترهيب فقد بدأت مبكرة منذ الأيام الأولى لما بعد حرب 1994م، فصار مجرد رفع مطلب حقوقي أو الحديث عن شيء اسمه الجنوب تهمة تكفي لإخفاء صاحبها وفي أحسن الأحوال لتقديمه لمحاكمة صورية هو فيها مدان مقدماً، ومن ثم إصدار أقسى العقوبات بحقه، بتهمة تهديد الاستقرار والدعوة لتمزيق الوطن وإثارة الفتنة الداخلية وسواها من العبارات الزئبقية التي لا معنى لها على أرض الواقع، وما يزال الجميع يتذكر الاعتداء الذي تعرض له المتظاهرون في مدينة المكلا بمحافظة حضرموت، في العام 1996م بعد ما عرف بحادثة "اغتصاب المكلا"، حيث استشهد اثنان من المتظاهرين ضد هذه الحادثة هما الشهيدان بن همام وبا رجاش، كما جرى إخفاء الشخصية السياسية المعروفة حسن باعوم لعدة أشهر ثم اعتقاله، وأثناء الاعتقال تلقى مكالمة من الرئيس علي عبد الله صالح، هدده فيها بقطع رأسه، وعندما نشر نص هذه المكالمة على صحيفة الثوري في اليوم التالي صادرت قوات الأمن كل نسخ عدد الصحيفة المحتوي على نص المكالمة.

 

لكن مع اندلاع الانتفاضة السلمية التي عرفت باسم "الحراك السلمي الجنوبي" وتصاعدها لتشمل كل مدن وعواصم المحافظات والمديريات، أصابت النظام وأجهزته المخابراتية حالة من الجنون، وحصلت الأجهزة الأمنية على تفويض مطلق من رأس النظام بإطلاق النار على المحتجين وقد راح في كل فعالية عدد من الشهداء والجرحى تراوح بين أفراد وعشرات الأفراد من الشهداء ، وبين عشرات ومئات الجرحى في الفعالية الواحدة، ومع كل حادثة اعتداء كان يتضاعف عدد المنخرطين في الفعالية التي تليها، وكانت ظاهرة ما يمكن تسميته بـ "متوالية التأبين والاستشهاد" تتواصل بشكل بين الأسبوعي والشهري، فكلما نظم الجنوبيون مهرجان تأبين ودفن شهداء فعالية معينة، كان عشرات ومئات الآلاف يحولون التأبين إلى فعالية احتجاجية تواجهها قوات الأمن بالرصاص ليعود المتظاهرون بجرحى جدد وشهداء جدد يستعدون لتأبينهم في فعالية قادمة وتستمر المتوالية.

 

 

 

القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (13)

 

 

 

وما يزال الجنوبيون يتذكرون حادثة منصة الحبيلين في 13 أكتوبر 2007م ثم حادثة تأبين شهداء المنصة في الثلاثين من نوفمبر من نفس العام، وحوادث ميدان الشيخ عثمان في 13 يناير 2008م ، وعشرات الحوادث المشابهة في الضالع وحبيل الجبر وساحة العروض بخور مكسر ومدينة زنجبار، ومصنع الذخيرة في الحصن أبين، وغيرها عشرات الاعتداءات في عتق ولودر ومودية وسيؤون والمكلا والغيضة التي ووجهت فيها الفعاليات السلمية بالرصاص الحي من قبل قوات النظام الأمنية والعسكرية، وسقط فيها ألاف الشهداء يقدرها البعض بما فوق العشرة آلاف شهيد من الشباب الجنوبيين المسالمين وأضعافهم من الجرحى طوال أكثر من سبع سنوات، على أيدي قوات الأمن القومي والسياسي والحرس الجمهوري والأمن المركزي، وقد ترافق مع هذه الحملات حملات اعتقالات ومحاكمات صورية بتهم مسيسة معظمها كيدية.

 

ففي حين كان المسلحون غير النظاميين المدعومون من النظام يقطعون الطرقات ويعتدون على المسيرات السلمية، ويسلبون أعداد صحيفة الأيام المرسلة من عدن إلى صنعاء من على باص النقل الجماعي ويمزقونها ويحرقونها بدون وجه حق، وكانت قوات الأمن تحاصر مبنى صحيفة الأيام ومنزل آل با شراحيل في عدن، في تلك الأثناء وعلى مدى أسابيع ألقت قوات الأمن القبض على عدد من الناشطين السياسيين الجنوبيين البارزين منهم سفراء سابقون، ونواب برلمانيون سابقون، ومناضلون من قادة الثورة ضد الاستعمار البريطاني وناشطون حقوقيون وأكاديميون، أمثال

 

- السفير قاسم عسكر جبران، أحد ابرز قادة الحراك السلمي الجنوبي, سفير سابق وقائد لواء سابق في الجيش الجنوبي.

 

- السفير والنائب علي منصر محمد، عضو مجلس النواب السابق وسفير الجنوب في بلغاريا والاتحاد السوفييتي وسكرتير منظمة الحزب الاشتراكي في عدن.

 

- المناضل الأكتوبري القائد حسن باعوم عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، سكرتير منظمة الحزب في محافظة حضرموت.

 

- الصحفي هشام باشراحيل صاحب ورئيس تحرير صحيفة الأيام وهي واحدة من أشهر وأقدم الصحف الجنوبية التي صدرت في عدن أواخر خمسينات القرن الماضي، ومن أكثر الصحف التي حرصت على نشر كل الأخبار المتعلقة بالحراك الجنوبي والتطورات السياسية على الساحة الجنوبية.

 

الكاتب الصحفي والناشط السياسي أحمد عمر بن فريد.

 

- فؤاد بامطرف عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، سكرتير ثاني منظمة الحزب حضرموت.

 

- فؤاد راشد، مراسل صحيفة 26 سبتمبر، وأحد ناشطي الحراك في محافظة حضرموت.

 

- المحامي والناشط السياسي علي هيثم الغريب.

 

- د. حسين مثنى العاقل أستاذ الجغرافيا الاقتصادية بجامعة عدن

 

- المحامي يحيى غالب أحمد أحد أبرز قادة الحراك الجنوبي عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني.

 

ـ العميد عيدروس حقيس ابن مديرية لودر ورئيس مجلس الحراك الجنوبي في محافظة أبين.

 

- حسين زيد بن يحيى رئيس ملتقى التصالح والتسامح م/ أبين

 

- النائب البرلماني السابق العقيد أحمد با معلم أحد قادة الحراك السلمي في حضرموت.

 

- الناشط السياسي الشاعر عباس العسل عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي وأحد أبرز قادة الحراك السلمي في محافظة أبين:

 

ومثلهم تعرض للاعتقال كل من ناجي العربي ، محمود حسن زيد، مطيع ناجي نصر، حسين الصديق، محمد عباس، فيصل جبران الخيالي، أحمد القمع وأحمد القنع وغيرهم المئات من نشطاء الحراك السلمي الجنوبي الذين تفاوتت فترات اعتقالهم بين أيام وأسابيع وبين أشهر متواصلة قبل المحاكمة .

 

كانت التهمة الأبرز والمصممة مسبقا لمعظم هؤلاء، كالسفير قاسم عسكر والنائب علي منصر، وحسن باعوم وحسين العاقل، وبقية القادة هي: القيام بتشكيل تنظيم سياسي مناهض للوحدة اليمنية، والعمل على شق الصف الوطني، والمساس بالوحدة الوطنية والدستور، واعتبار تواجد "الدولة الشرعية" في الجنوب احتلالاً، وتشكيل حركة مسلحة للاغتيال الفيادات اليمنية، وغير ذلك من الاتهامات المفبركة والتعبيرات العبارات الزئبقية التي لا يمكن البرهان عليها بأفعال أو قرائن عملية ملموسة.

 

وبعد حملة الاعتقالات هذه قدم العديد من هؤلاء القادة والناشطين لمحاكمات صورية تخلو من أبسط المتطلبات القانونية في محكمة استثنائية غير قانونية، سميت بالمحكمة الجزائية المتخصصة، أي محكمة أمن الدولة، وبعد عدد من الجلسات المطولة والمملة والأقاويل والدعاوي المكررة حكم على معظم هؤلاء بالسجن لسنوات تتراوح بين خمس وعشر سنوات.

 

وكان كاتب هذه السطور شاهداً على جلسات كان تحضر فيها هيئة المحكمة والمتهمون والمحامون وممثلو النيابة العامة، ثم تُأَجَل الجلسات إلى موعد آخر لأن رئيس الجمهورية مسافر خارج االبلد، مثل جلسة النطق بالحكم في قضية السفير قاسم عسكر التي تزامنت مع سفر الرئيس صالح في زيارة لحمهورية ألمانيا الاتحادية، في ذلك اليوم وقف أخو السفير قاسم عسكر يسأل القاضي محسن علوان عن سبب عدم النطق بالحكم بشأن أخيه، فرد مازحاً: إسأل الدكتور عيدروس، وهو يعلم أننا كنا نتهم القضاة أنه يتلقون الأحكام عبر اتصال هاتفي من رئيس الجمهورية شخصياً.

 

لم تتوقف حملات الاعتقالات عند هذه النقطة بل لقد استمرت مواكبة لكل فعالية احتجاجية بما في ذلك فعاليات تأبين ودفن شهداء الفعاليات السابقة.

 

ومن طرائف الاعتقال التي كان كاتب هذه السطور شاهدا عليها، عند ما قمنا بمعية زملاء آخرين بزيارة معتقلي الشيخ عثمان بعد إحدى الفعاليات السلمية، فقد عثرت على عشرات من الشباب المعروفين، بينهم الناشط راشد عاطف، وهو اسم غير بارز في قيادات الفعاليات، وعند ما تقدم للتحية قلت له:

 

ـ كيفك يا راشد، ومن متى أنت هنا؟

 

قال: اسكت يا دكتور، أنا اسمي هيثم الخضر، وليس راشد.

 

تعجبت، لكنه أسرع في التفسير إذ قال لي بشيء من الهمس:

 

- اسم راشد عليه تعهد سابق بعدم تكرار "الأعمال المضرة بالوطن"، كما يسمونها، ولذلك اخترت الإسم الجديد، وعند ما سأخرج سيأخذون مني تعهد جديد، وفي المرة القادمة سأدخل السجن باسم ثالث، وهكذا.

 

ثم مواصلاً:

 

- لن ندعهم يهدأون يا دكتور إلا لما يخرجون من أرضنا.

 

الشاهد هنا إن السلطة كانت متفوقة ببطشها وعنفها وتجبر ممثليها في الجنوب، لكن الشباب الجنوبيين كانوا متفوقين بعنصري الإرادة والذكاء.

 

ومع كل ذلك فلم تتوقف الحركة الاحتجاجية، بل لقد ازدادت اتساعاً واحتشاداً، وكانت كل مسيرة تأبين لشهداء أو ذكرى مناسبة جنوبية تتحول إلى فرصة لمضاعفة عدد المحتجين، وتقوية شوكة الحراك السلمي الجنوبي الذي لم يتوقف حتى يوم الاعتداء الانقلابي المستهدف إعادة الاحتلال وملاحقة الرئيس هادي يوم أن أفلت من أيدي حلفائه الشماليين وعاد إلى أهله في عدن.

 

تميزت هذه المرحلة بمنحيين،

 

المنحى الأول: هو الاتجاه التصاعدي السريع لحركة المد الاحتجاجي على الصعيد الجغرافي وعلى الصعيد العددي أي انتشار الفعاليات الاحتجاجية في معظم مدن ومديريات محافظات الجنوب من ناحية، ومن ناحية أخرى زيادة أعداد المشاركين في الفعالية الواحدة مقارنةً مع سابقاتها، ما عبر عن استحالة تراجع الرفض العارم لنتائج الحرب وتنامي ميول المواطنين الجنوبيين نحو استعادة دولتهم.

 

أما المنحى الثاني: فتمثل في الإخفاق في صناعة قيادة موحدة ذات قيادة سياسية وتراتبية هرميةن وبرنامج سياسي ورؤية ونهج سياسيين واستراتيجية وتكتيك واضحين، لضمان السير في خط واضج وعدم الوقوع في مطب العشوائية والارتجال والموسمية، وهو السبب الذي ساعد على تمكين أجهزة السلطة إلى هذا الحد أو ذاك من التسلل إلى داخل ما عرف بالحراك الجنوبي واصطناع مكونات موازية باسم الجنوب، ومحاولة دق الأسافين بين قيادات ووجاهات الحراك السلمي الجنوبي، فضلا عن تشكيل مكونات جنوبية لكن باسم السلطة هذه المرة مثل لجان الدفاع عن الوحدة التي عرف عن جماعاتها الاستهتار والعنجهية وأعمال البلطجة وقطع الطرقات والاعتداء على شباب الفعاليات السلمية بما في ذلك باستخدام السلاح في سبيل محاولة عرقلة بعض فعاليات الحراك السلمي.

 

وقد أصبحنا نشاهد من على شاشات الفضائيات المحلية أو العربية أو على صفحات الصحف والمواقع الإلكترونية أسماء مغمورة، وبعضها مشتبه بانتمائها، فيتم تقديم أصحابها تحت اسم "قيادي في الحراك الجنوبي" وقد جاء ذلك لأن الحراك صار اسماً كبيرا ذا حضورً فاعل ومؤثر لكن بلا هيئات وبلا تكوينات بنيوية تحدد من هو القائد (أو القيادي كما كانت تقول وسائل الإعلام) ومن هو الناشط العادي أو المناصر والمؤيد، والمواطن العادي، إذ أصبح بإمكان أي شخص مهما كانت صفته أن يقدم نفسه كـ"قيادي في الحراك الجنوبي".

 

لقد كان "الحراك السلمي الجنوبي" في صورته العامة ثورةً سلمية بكل المعاني، ثورة حقيقية لم تشهد المنطقة العربية مثيلا لها لا من حيث أعداد الجماهير المشاركة فيها، ولا من حيث مطالب القائمين عليها، ولا من حيث تطاول الفترة الزمنية التي امتد خلالها، وربما جاءت ما سميت لاحقا بثورات الربيع العربي ومنها ثورة الشباب السلمية في الشمال اقتداءً بهذا النهج وتعلماً من دروسه وتجاربه.

 

 

 

القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (14)

 

 

 

 

 

المرحلة الرابعة وهي مرحلة المقاومة المسلحة.

 

طوال الفترة القصيرة ما بعد 1994م لم يكن هناك توجهٌ للعمل المسلح ضد القوات الرسمية الشمالية القادمة إلى الجنوب لأسباب عديدة، منها عدم التكافؤ مع الجيوش الجرارة التي حولت الجنوب إلى معسكر كبير تمركز فيه وتنشط على أرضه، وعدم وجود قيادة منظمة تدير مثل هذا النوع من العمل، كما إن العمل المسلح في ظروف هيمنة سياسة القطب العالمي الواحد، وتمكن نظام صنعاء من إعادة ترميم علاقاته مع الجيران وإقناع أغلب دول العالم بجدوى وأهمية وجود دولة موحدة في اليمن تتداخل في مصالح متعددة مع كبار القوى الإقليمية والدولية، وبالتالي غياب أي داعم سياسي إقليمي أو دولي لأي تفكير بالقيام بعمل مسلح في الجنوب، كل هذا قد أضعف أية فرص لقيام مقاومة مسلحة جنوبية فاعلة ومؤثرة على توازن القوى بين الشعب الجنوبي الذي يعيش مرارات الهزيمة والانكسار والنظام الحاكم الذي كان في أوج نشوته وزهوه بما أسماه الانتصار على "عناصر الردة والانفصال".

 

كانت حركة حتم (حركة تقرير المصير) التي نشأت في العام 1996م على يد الضابط المتقاعد قسريا عيدروس قاسم الزبيدي، الذي سيغدو لاحقا قائدا للمقاومة المسلحة ثم لواءً ومحافظا لعدن فرئيسا للمجلس الانتقالي الجنوبي، كانت هي البداية المنظمة، وربما الوحيدة للعمل المسلح الرافض للوجود الشمالي والذي استهدف في عددٍ من العمليات مواقع وقيادات عسكرية شمالية، ونظرا لاتسام عمل الحركة بالسرية التامة فإن الكثير من تفاصيل عملها ستبقى غير معروفة حتى يكشف عنها لاحقا، لكن ما يحسب لحركة حتم أنها نجحت في تدريب المئات من الشباب على مبادئ العمل العسكري والتكتيكات العسكرية وتقنيات الهجوم الخاطف وحرب العصابات، وسيكون للكثير من هؤلاء الشبان شأن في المراحل اللاحقة، أما الحركة ذاتها فقد تراجع دورها مع العام الثاني من الألفية الثالثة ليستأنف ظهوره مرة أخرى قبيل الانقلاب على الرئيس عبد ربه منصور هادي في الصدامات المسلحة مع قوات الجيش اليمني في محافظة الضالع الجنوبية ولاحقا في كل الجنوب.

 

وهكذا فمنذ انطلاقها كانت ثورة الحراك الجنوبي سلمية، وظل قادتها وناشطوها وإعلاميوها يؤكدون تمسكهم بهذا النهج وعدم الانجرار إلى مربع السلاح وهو ما أسقط على السلطات الرسمية وأجهزتها المخابراتية والأمنية كل ما كانت تتمناه، وفي الحقيقة فقد مثل هذا النهج عنصر أرق وقلق بالغين للسلطات التي أمعنت في القتل والاعتداء على نشطاء الثورة الجنوبية العُزَّل من السلاح، لكنها كانت كلما بالغت في القتل والعدوان والقمع، كلما وسعت دائرة أنصار ثورة الحراك السلمية وخسرت الكثير ممن يؤيدونها أو دفعت الآلاف ممن لا يهتمون بالصراع السياسي وبالسياسة عموما إلى الانخراط في تأييد الثورة الجنوبية السلمية.

 

كانت عدن تعيش آخر الاعتصامات السلمية التي امتدت قرابة الأشهر الأربعة منذ احتفالية الرابع عشر من أوكتوبر و30 نوفمبر 2014م وكان التحالف الانقلابي قد نجح في السيطرة على صنعاء ومساحات واسعة من الشمال دونما مقاومة تذكر باستثناء معارك تبة التلفيزيون ووادي ظهر، ثم لاحقا بعض المواجهات في البيضاء والجوف وبعض مديريات مأرب.

 

وبينما جرى احتجاز رئيس الجمهورية، والحكومة من قبل الانقلابيين، ومضت القصة كما هي معروفة للجميع حيث تخلى عنه شركاؤه، ولم يقاوم أحد القوات الانقلابية وهي تقصف القصر الذي يقيم فيه الرئيس وتقتل أفراد حراسته وأولاد وأحفاده، وقد قال لي فخامة الرئيس أنه خسر واحداً وثلاثين فرداً من حراسته وأحفاده وأقربائه أثناء الاحتجاز، وبينما كانت مليشيات التحاالف الانقلابي تسقط المحافظة تلو الأخرى في ساعات دونما أية مقاومة لا من القوات التي يفترض أنها حكومية تدافع عن الوطن وعن الدولة ورمزها رئيس الجمهورية ولا من قبل الملايين الذين احتشدوا في الساحات أثناء ثورة الشباب السلمية تحت لواء أحزاب المعارضة، ومن ثم اختيار الرئيس هادي كرئيس توافقي لجميع الأحزاب والأطراف السياسية اليمنية، في ظل هذه الوضعية واصل الجنوبيون اعتصامهم المفتوح تمسكاً بشعارهم المعروف حق فك الارتباط والحرية والاستقلال واستعادة الدولة الجنوبية، حتى جاء إفلات الرئيس هادي من قبضة الانقلابيين ووصوله إلى عدن وممارسة مهامه من هناك.

 

وعندما قال محافظ تعز حينها، قولته الشهيرة مطمئنا أبناء تعز، "إن الحوثيين لم يأتوا لاحتلال تعز، وإنما هم يمرون ترانزيت" اتضح للجميع أن عدن هي وجهتهم بعد تعز، وبالفعل لم تمر أيام حتى كان الحوثيون وبعد التنسيق مع عدد من المحافظين الجنوبيين في لحج وعدن ومدير أمن عدن الذي رفض قرار استبداله حتى تفجرت الأوضاع في عدن وجاء قصف الطائرات لمجمع الرئاسة في المعاشيق حيث يقيم الرئيس هادي ومن معه، وما تلى ذلك من تداعيات معروفة للجميع.

 

كانت ثقافة التصالح والتسامح قد شقت طريقها بصعوبة وبطء في مسار العمل السياسي الجنوبي، لكنها تجلت في ابهى صورها في ذلك العام ٢٠١٥م عندما استقبل المقاومون الجنوبيون، الرئيس هادي الذي التجأ إليهم بعد أن انقلب عليه حلفاؤه السابقون، استقبلوه وهو الذي كان ذات يوم قائداً لقوات الغزو الشمالي للجنوب.

 

لقد احتفى المواطنون الجنوبيون وقياداتهم الميدانية، في العاصمة الجنوبية عدن بالرئيس عبدربه منصور هادي، ووفروا له الحماية أولاً كقائد جنوبي التجأ إلى أهله بعد أن غدر به شركاؤه مثلما غدروا قبله بالجنوب وقياداته، وثانياً كزعيم سياسي مهدد بالقتل من قبل من انقلب عليه من السياسيين.

 

ويعلم الجميع المواجهات التي خاضها الجنوبيون ومقاومتهم الوطنية والجماعات المسلحة الجنوبية التي تشكلت في البدء بشكل عفوي ثم دخلت القيادات الجنوبية المحترفة لرص الصفوف وإعادة تنظيم العمل العسكري لمواجهة جماعة الانقلاب والغزو.

 

ولا يمكن المرور على هذه اللحظات التاريخية والمصيرية والعصيبة دون التعرض لتلك المشاهد المثيرة للدهشة والإعجاب لشباب عدنيين وجنوبيين ممن كان الكثيرون يتصورون أنهم يصابون بالذعر لمجرد سماعهم إطلاق لعبة نارية في أيام الأعياد، ثم وهم يتنافسون على من يتقدم أولا، وهم يتبادلون البندقية الواحدة بين ثلاثة وأربعة أفراد، ولقد لعب وجود قيادات عسكرية ذات مهارة وخبرة عقود من العمل العسكري المتقن دورا إيجابياً ومسرعاً في عملية تحرير مناطق عدن ولحج وأبين، والذهاب غرباً باتجاه مناطق الصبيحة وباب المندب، حتى ذباب والمخا على الساحل الشرقي للبحر الأحمر.

 

وهنا لا يمكن الحديث عن تلك اللحظات دون التعرض لأسماء قادة بعضهم دفع حياته أو جزءً منها ثمنا لهذه المعركة، ونشيرر هنا إلى القائد اللواء محمود أحمد سالم الصبيحي وزير الدفاع الذي أسرته قوات التحالف الانقلابي مع العميدين ناصر منصور هادي وفيصل رجب، أثناء زيارتهم لمعسكر العند حينما أعلنت القوات الشمالية هناك موالاتها للرئيس هادي ثم انقلبت عليه في عملية غادرة كان يمكن أن يختطف فيها الرئيس نفسه، لولا الصدفة المحضة.

 

ومن المنصف التعرض للأدوار المفصلية التي لعبها القادة الجنوبيون في مواجهة غزو التحالف الانقلابي وتحرير عدن وبقية المحافظات أمثال القائد اللواء علي ناصر هادي قائد المنطقة العسكرية الرابعة (التي يفترض أن تضم عدن وأبين ولحج والضالع وتعز الذي استشهد قبيل تحرير عدن، واللواء جعفر محمد سعد الذي شارك في قيادة عمليات تحرير عدن، ثم عين محافظا لعدن واستشهد في عملية إرهابية ما تزال خفاياها مغمورة حتى اللحظة، والقائد اللواء أحمد سيف محسن المحرمي اليافعي، الذي عين قائدا للمنطقة العسكرية الرابعة بدلا عن اللواء الشهيد علي ناصر هادي، ثم نائبا لرئيس هيئة الأركان العامة في وزراة الدفاع اليمنية حينما كان المقدشي رئيسا لهيئة الأركان، ليستشهد الأثنان (اللواء جعفر واللواء اليافعي) ومعهما العشرات من القادة الميدانيين ويرقى المقدشي إلى وزيرٍ للدفاع، بينما أُعفِي الأسير اللواء محمود الصبيحي من منصبه كوزير للدفاع وغير هؤلاء القادة العشرات والمئات ممن كانوا قادة لجبهات المواجهة مع التحالف الانقلابي، بعضهم قادة عسكريون سابقون والكثير منهم شباب متطوعون أبرزوا مهارات قل نظيرها أثمرت عن تحرير عدن ولحج والضالع وأبين ومناطق متعددة باتجاه الساحل الغربي.

 

لقد كان استقبال الرئيس هادي وحمايته والوقوف في صفة من قبل الجنوبيين يمثل ذروة التسامح والتنازل والصفح عن كل خلافات الماضي وطي صفحاتها باعتبار المعركة القادمة كانت تستدعي ما هو أكبر من مجرد التفكير في استرجاع خلافات ولى زمنها وانطوت أيامها.

 

سيكتب المؤرخون وسيدون المدونون، وسيروي المتابعون الكثير والكثير من تفاصيل تلك المعركة التاريخية التي قل نظيرها حينما واجه شعب أعزل إلا من الأسلحة التي اغتنمها من المعسكرات بعد هروب قادتها، واجه جيشاً كان يصنف على إنه رابع جيش على المستوى العربي، ومليشيات تعتبر ثاني مليشيات من حيث الفتك والجسارة والشراسة في المنطقة العربية بعد مليشات حزب الله ليتغلب الشعب الأعزل على هذين الجيشين الجرارين ويدحرهما في أقل من مائة يوم.

 

ومن الإنصاف القول أن هذا لم يكن ليتحقق لولا الدعم السخي من الأشقاء في دولتي التحالف العربي الرئيسيتين، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة اللتين قدمتا الدعم اللوجستي والعتاد والخبرة والدعم المعنوي خلال مرحلة المواجهات والمقاومة حتى تحقيق النصر وواصلتا وما تزالان تواصلان دعمهما بأشكاله المختلفة في كل المجالات.

 

 

 

القضية الجنوبية وإشكالية الهوية (15)

 

 

 

 

 

 

 

المرحلة الخامسة مرحلة ولادة الجسم السياسي الحامل للقضية الجنوبية.

 

إن جذور هذه المرحلة تعود إلى فترات مبكرة تمتد إلى أيام ما بعد الحرب في العام 1994م ، فقد جرت عدة محاولات لبناء كيان سياسي جنوبي يعبر عن القضية الجنوبية حتى قبل اعتماد التسمية والتعريف بالقضية.

 

تمثلت أولى المحاولات في تكوين حركة موج (الجبهة الوطنية للمعارضة)، والتي تشكلت من بعض القيادات الجنوبية التي نزحت بعد الحرب، وقد أعلنت الجبهة عن اختيار العمل السلمي والنضال من أجل تعريف العالم الخارجي بنتائج الحرب وآثارها على الواقع السياسيي والاجتماعي في اليمن ومعاناة الشعب الجنوبي ما بعد الاجتياح، وكان للجبهة إصداران أحدهما باللغة العربية والثاني باللغة الإنجليزية، وقد ترأس الحركة في البدء المرحوم السيد عبد القوي مكاوي أحد القادة التاريخيين لجبهة تحرير جنوب اليمن وآخر رئيس لمجلس وزراء حكومة عدن قبيل الاستقلال، ثم انتقلت الرئاسة للسيد عبد الرحمن الجفري رئيس رابطة أبناء اليمن (راي) ونائب رئيس "جمهورية اليمن الديمقراطية" التي أعلنت أثناء الحرب برئاسة السيد علي سالم البيض الشريك في التوقيع على اتفاقيات الوحدة اليمنية في نوفمبر 1989م و22 مايو 1990م.

 

تركز عمل الجبهة في السعي لإقامة مصالحة وطنية شاملة على المستوى اليمني على أساس الحوار من خلال حكومة وحدة وطنية تعمل من أجل تنفيذ نصوص وثيقة العهد والاتفاق الموقعة في عمان 21 فبراير 1994م قبل اندلاع الحرب، والتي تضمنت قيام دولة فدرالية من عدة أقاليم.

 

وفي مؤتمر لندن الذي عقد في نوفمبر 1995م بدعوة من مركز الدراسات الجيوبوليتيكية والحدود الدولية بجامعة لندن، قال السيد عبد الرحمن الجفري رئيس الجبهة "نقول إن المصالحة الوطنية، هي الكفيلة بمعالجة كل الصراعات التي تمت في بلادنا، السياسية والاجتماعية، من خلال حوار بين أطراف الصراع، ثم نحدد آلية لتنفيذ ما نتفق عليه، . . . ،ثم نتفق على وثيقة العهد والاتفاق، نتعهد على تنفيذها" .

 

وقد استمرت هذه الجبهة في العمل بضع سنوات، لكن نشاطها تميز بالموسمية والتقطع، مع بعض البيانات والإصدارات الإعلامية، بيد إنه توقف بشكل نهائي منذ العام 2000م بعيد توقيع اتفاقية الحدود بين اليمن والمملكة العربية السعودية.

 

وبمقابل ذلك نشأت حركة حتم (حركة تقرير المصير) وقد سبق الحديث عنها، وتميز عملها بالسرية المطلقة وانتهاج طريق العمليات العسكرية الخاطفة، وقد تمكنت من تدريب وتأهيل مئات المقاتلين ونشر ثقافة التمسك بحق استعادة الدولة الجنوبية، وطرد القوات الشمالية بالقوة المسلحة، ونفذ منتسبوها عددا من العمليات ضد نقاط أمنية وعسكرية وقادة وجنود عسكريين من القوات الشمالية، لكن سلطات صنعاء لم تكن غافلة عن هذا فقد قامت بعمليات انتقامية اغتيل فيها عددٌ من الأفراد أمثال رجل الأعمال الشهيد محمد ثابت الزبيدي والشهيد علي قائد المعكر وحملات قصف وهدم المنازل في مديرية جحاف ومديريات أخرى في محافظة الضالع، كما أجرت محاكمة غيابية لقائد الحركة، السيد عيدروس قاسم الزبيدي تمخضت عن الحكم الغيابي عليه بالإعدام ، وإذا كان نشاط الحركة قد تراجع بعض الشيء خلال فترة ثورة الحراك السلمي 2007-2013م فإنه قد عاد ليُستَأنَف من جديد في إطار المواجهة المسلحة مع قوات نظام صالح ثم ورثته منذ العام 2013 حتى خروج قوات تحالف الانقلاب في 17 يوليو 2015م، وبفضل هذه الحركة ونهجها العسكري فقد تميزت المقاومة المسلحة في الضالع ومديرياتها بالاستبسال والفدائية العالية، وإرباك القوات العسكرية التابعة للنظام سواء قبل الانقلاب في صنعاء أو بعده.

 

ويحسب للمقاومة المسلحة في الضالع بقيادة السيد عيدروس الزبيدي أنها خاضت مواجهةً غير متكافئة مع القوات الغازية منذ 1994م، لكنها واثناء مواجهات ما بعد الغزو الثاني 2015م تصدت بقوة لألوية نظام صنعاء، وبرغم التفاوت بين الطرفين في القدرات البشرية والفنية والمهارات العسكرية فإن مقاومة الضالع قد تمكنت أن تدحر قوات التحالف الانقلابي بقيادة الجنرال ذي السمعة السيئة المدعو عبد الله ضبعان الذي ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في حق المدنيين في الضالع ليس آخرها مجزرة مخيم العزاء في سناح، بتاريخ 27 ديسمبر 2014م التي راح ضحيتها أكثر من عشرين شهيد وأكثر من مائة جريح بينهم عدد من الأطفال، وكانت إيذانا باستعار المقاومة واشتدادها حتى دحر القوات الانقلابية المعتدية، نقول أن مقاومة الضالع قد أنجزت كل هذا قبل وصول قوات التجالف العربي ودعمها اللوجستي.

 

لقد مثل هذا الانتصار مأثرة قل نظيرها، إذ كانت قوات علي عبد الله صالح في الضالع تتمتع بكل نقاط التفوق وأدوات الانتصار لكن معركة الضالع أثبتت أن قوة الإرادة والاستبسال لدى رجال المقاومة تتفوق على قوة المدفعية والدبابة والقذيفة وكافة أسلحة القتل والدمار.

 

وفي الخارج شهدت الحركة السياسية الجنوبية نشوء التجمع الديمقراطي الجنوبي (تاج) في المملكة المتحدة في العام 2005م، وهو تجمع ضم عددا من النازحين السياسيين الجنوبيين من العسكريين والمدنيين، قاد حملة إعلامية ضد نظام الغزو والاجتياح ورفع شعار استعادة دولة الجنوب العربي، لكنه تعرض لحالة من الانقسام قللت من الدور الذي كان يمكن أن يلعبه مع بقية القوى الجنوبية في التعبير عن القضية الجنوبية.

 

وفي وقت لاحق وفي بريطانيا أيضا نشأت الهيئة الوطنية لدعم الحراك الجنوبي السلمي ضمت في عضويتها عددا من الناشطين السياسيين الجنوبيين من العسكرييين والمدنيين، وكانت إطارا مؤازرا للحراك الجنوبي وداعما لشعاراته ومتبنية لنهجه السلمي، وقد اقترن نشاطها وزخمها بنشاط وزخم فعاليات الحراك السلمي في الداخل صعوداً وهبوطاً كما شارك معظم قياداتها في مؤتمر القاهرة الأول في نوفمبر 2011م.

 

وكان مؤتمر القاهرة الأول (نوفمبر 2011م) الذي شاركت فيه شخصيات قيادية جنوبية على رأسها الرئيسين علي ناصر محمد وحيدر أبوبكر العطاس والوزيرين السابقين صالح عبيد أحمد ومحمد علي أحمد، كان محاولة للم أكبر عدد من الشخصيات والأسماء الجنوبية من الناشطين السياسيين وأصحاب الكفاءات والمبدعين الجنوبيين .

 

عقد المرتمر في العاصمة المصرية القاهرة تحت العنوان الرئيسي للفعالية " معاً من أجل تحقيق المصير لشعب الجنوب"، وخرج برؤية لقيام دولة يمنية اتحادية مزمَّنة من إقليمين تنتهي باستفتاء جنوبي لتقرير مصير الجنوب بعد نهاية الفترة المحددة.

 

وقد واصل المؤتمر (بعد أن غدا اسماً لجسم سياسي جنوبي) بقيادة مؤقتة نشاطاته في الداخل على هيئة اجتماعات غير منتظمة وبيانات سيا

التعليقات

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر