الجنوبي مسرف في مشاعره الطيبة، ذهب بذاته إلى الوحدة ليجسد أماني العرب الذين تخلوا عن أمانيهم غير الواقعية في مهدها وتجنبوا السعي إليها بكل ما أوتوا من عزم.
لم يدرك بأن أعمق البواعث الوطنية هي التي تتجه إلى بناء الذات المستقلة، وأن الوحدة التي يفهمها العالم تقوم على التكتلات الاقتصادية والتعاون الاستراتيجي في الأمن والعلاقات الخارجية، وليست حالة الذوبان والضياع التي يتم فيها الاضافة عن طريق الحذف. وهذه الاخيرة هي التي تمت بالفعل وزرعت جذور النكبة. وهي التي رفضها العرب واختارها قادة الجنوب ليجربوا بشعبهم.
الخليجيون بدولهم الصغيرة والكبيرة وثقافاتهم المشتركة وقبائلهم المترابطة صنعوا مجلساً استغرق عقوداً دون ان يعيشها كما تمنوا.. وتحول إلى منتدى لإدارة الخلافات التي تعمقت مع الزمن، فأصبح الخليج، على وقع نمو الطموحات والمسارات المتباينة لدولِه، خلجان فاق تنافرها قدرة المجلس بهياكله التقليدية على احتواء أزماتها.
ومن جهتهم لم يحزم البيروتيون حقائبهم هاربين من أزماتهم الداخلية نحو دمشق ليعلنوا عن الشام الكبير و (واحديته) المقدسة ويتنازلوا عن راية "الأرزة الخضراء" لأنهم يفهمون بأن ذلك سيقود إلى اندثارهم أحياءً، فغنّوا "ياشام عاد الصيف" لكن يبقى كلّ في دياره يحمي روابط الاخوة والحياة المشتركة ويحافظ على التكافؤ والحقوق.
أما دمشق وبغداد، وهما توأم بالتنشئة التاريخية التي سارت بهما فوق تضاريس صعبة منذ عواصم الخلافة حتى "البعث العربي"، فقد ابتعدتَا قبل أن تقتربا من ربع "حلم وحدوي" أو من خطوة حقيقية للشراكة حين كانَتَا محور العروبة الصلب. وأصبحت الموسوعات التي كُتبت في "الأمة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة" مجرد حلم على ورق تنافرتا على وقعه دمشق وبغداد، رغم "واحدية" ايديولوجيا البعث الحاكم والمصائر المشتركة والشّبَه في كل الحبكات المحكية في الخطاب السياسي وسلالم النغمات المرافقة له!
وكذلك تونس الصغيرة الجميلة وهي متكئة بثبات على الكتف الغربي من الجغرافيا الليبية الكبيرة لم تفكر يوماً أن تذهب إلى طرابلس الغرب الغنية ذات السكان الأقل لتخوض غمار الخطاب المحموم وتتخذ منها عاصمة تاريخية بأثر رجعي معلنة حالة الإنصهار الأبدي لأنها إن فعلت سوف تتلاشى خارج مداها الحيوي في أحسن حال أو تُرمى في مياه خليج سرت مثل قربان يُقدم لإله البحر، ليس أحد الاولمبيين الاثني عشر ولكن أحد الزعامات الهائجة فوق المدى العروبي الحار. ولهذا رأت تونس ان تبقى قرطاج كما هي شقيقة تاجوراء الليبية ولكن كل في دولته.
وهكذا تبخرت ايضا كل مشاريع الوحدة والاتحادات بعد انهيار تجربة مصر وسوريا واتضح مع الزمن أن محصلة العطاء الوحدوي لدول العرب مجتمعة لم تتجاوز سقف ميثاق الجامعة العربية الميتة اصلاً. لقد تفادت كل دول العرب حمل مشقة الوحدة بمفاهيمها المتشددة والخوض في مخاطرات مجهولة وحروب داخلية محتملة، وحملها الجنوبي المغدور ليشقى بها جيل بعد جيل.
أوهموه منذ طفولة وعيه بأنه إن ذهب إلى الوحدة سيزداد كمالاً فزاد نقصاً.. ويزداد قوة فزاد ضعفاً.. ويزداد استقراراً فزاد انهياراً، وقيل له بأن الوحدة بكل سيئاتها الواقعية أفضل فكانت بكل حسناتها الإفتراضية أسوأ. واكتشف مباشرة أنه تحرك بلحمه المجروح فوق زجاج محطم ووفق حسابات المساطر والمناقل الأيديولوجية.
لم يتدرب على الرؤية فسار مُقَاد، ولا على التفكير فعاش ملقّن وخاض تجربة المتلقي للنظريات الجامدة حتى وضعه القادة في حقيبة سفرهم بعد أن وقفوا على الرصيف يبحثون عن (أوتو ستوب) تاريخي سريع يحملهم إلى ضفاف الوهم السديمي بنشوة الفارين من "الحقيقة الجارحة". ثم اختفوا تاركين شعبهم ينزلق خارج دورة الزمن وايقاع الحياة.
والخلاصة.. ان استعراض التجربة ليس من أجل البكاء أو الإدانات ولكن لاستخلاص الدروس. لقد آن الأوان لأن يفهم الناس بأن أثمن وأبقى الروابط الأخوية بين الشمال والجنوب تتمثل في الشراكة المستمرة بمفاهيمها الحضارية، دون المساس باستقلال الآخر، فالتراث الوحدوي كله حرائق وخرائب وما يزال دم هابيل صارخاً في الأرض.