هناك جزء غير قليل من الكتاب والإعلاميين والمثقفين والسياسيين العرب، يدين منظمة حماس باعتبارها من تسبب في الهجمة الإسرائيلية على قطاع غزة الفلسطيني، التي أودت بحياة الآلاف من أبناء فلسطين في القطاع وإصابة أضعافهم وتدمير بنيته التحتية وفرض الحصار الإسرائيلي على أكثر من مليوني فلسطيني داخل هذا القطاع.
ويستند كل هؤلاء على أن منظمة حماس هي الفرع الفلسطيني للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وبالتالي فكل ما تفعله حماس هو عمل إخواني مدان، حتى لو كان التصدي للعدوان الإسرائيلي على أبناء فلسطين الذي لم يتوقف منذ العام 1947م.
ولن أتحدث عن الغالبية العظمى من صناع الرأي العرب التي تدين كل ما تقوم به دولة إسرائيل من أعمال إجرامية بحق المدنيين الفلسطينيين من أبناء غزة بمن فيهم الأطفال والنساء والعجزة والمدنيين عموماً وقلَّما أصابت مسلحاً من مسلحي حماس أو الجهاد أو أي مسلح آخر.
ويقول البعض من الذين يدينون منظمة حماس إن الزمن هو زمن السلام، وإن زمن "العنتريات" و"استعراض العضلات"، والتهديد بـ"إبادة إسرائيل" و"رميها في البحر"، قد أثبت فشله وأن الحل هو الذهاب باتجاه السلام.
ويعلم هؤلاء أن أحدا لم يقل بتدمير إسرائيل أو رميها في البحر، وأكثر ما يطالب به الفلسطينيون هو دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو 1967م.
لكن وبغض النظر عن التفاصيل وأعمال التطرف من هنا أو هناك، سأحاول أن أتجنب البرهان على إنني (ككاتب لهذا الموضوع) من أنصار السلام والرافضين للحرب كوسيلة لحل النزاعات والخلافات بين الدول أو الجماعات أو الأفراد لأن الحديث في هذا الأمر سيطول، بيد إنني من المؤمنين أن الحرب لا يمكن أن تضيف سوى مزيدٍ من نقاط الخلاف وأسباب النزاع واستنزاف الأرواح والدماء وتوسيع دوائر الدمار والخراب، وعمر الحرب لم تكن قط سبباً في حل المشكلات وتسوية النزاعات، لكن دعونا نتحدث عن فرص السلام في ما يتعلق بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وأسبابه وخلفياته، ولن أقول "الصراع العربي-الإسرائيلي" لأنه لم يعد هناك صراعٌ عربيٌ إسرائيليٌ في الأساس.
فأولاً: إن الفلسطينيين ما يزالون في حالة حرب مع الإسرائيليين وليس ما جرى يوم 7 أوكتوبر الجاري سوى جزء من هذه الحرب التي لم توقفها إسرائيل لا في ظروف الهدنة ولا في ظروف التوتر، فبرغم كل التنازلات التي قدمتها السلطة الفلسطينية لدولة إسرائيل منذ مدريد وأوسلو حتى تصفية ياسر عرفات وحتى اليوم، لم تحصل هذه السلطة منها سوى على المزيد من الحصار والمزيد من التوسع الإستيطاني والمزيد من العدوان على المدنيين الفلسطينيين وقضم الأراضي وتوسيع المستوطنات على الأرض الفلسطينية، وبلا أي مقابل يحققه أنصار السلام.
وثانيا: إن القيادات الإسرائيلية وداعميها الغربيين هم من أكثر الناس حديثا عن السلام، لكن السلام الذي يتحدثون عنه هو أن تنعم إسرائيل بحق الهيمنة والبلطجة والاستحواذ على الأراضي واقتلاع أشجار الزيتون وهدم منازل الفلسطينيين وحرمانهم من حق البناء، والاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية دون أن يردعها رادع أو يوقفها قانون أو ميثاق من المواثيق والعهود الدولية وحينما يرفض الفلسطينيون هذا النوع من السياسات فإن تهمة الإرهاب جاهزة لوصم كل من لم ينصع للسياسات التوسعية العنصرية الصهيونية.
وثالثاً: إن إسرائيل لم تكن حملاً وديعاً قبل السابع من اوكتوبر حتى يقال أن هجمة حماس هي من دفعتها لارتكاب ما ارتكبت من جرائم، فإسرائيل لم تتوقف جرائمها ضد العرب الفلسطينيين حتى في ذروة فترات الحديث عن السلام وتوقيع اتفاقيات السلام بينها وبين بعض الدول العربية، ومنذ أيام كان وزراء إسرائيل يقودون قطعان المستوطنين للاعتداء على المصليين والمصليات في مسجد الأقصى وفي غيره من الجوامع والمساجد والكنائس.
ورابعاً: إن السلطات الإسرائيلية ما تزال تعتقل الآلاف من المدنيين الفلسطينيين الغالبية منهم بتهمة التحريض على العنف وهي تهمة زئبقية لا تعني شيئا ملموسا سوى أن هؤلاء شاركوا في مظاهرات أو فعاليات احتجاجية ضد الجرائم الإسرائيلية، وبعض هؤلاء أمضى عقوداً بلا محاكمة وتحت ما يسمى بالاعتقال الإداري الذي لا يوجد له مثيل حتى في أكثر الدول القمعية والاستبدادية في العالم.
وخامسا: ما تزال إسرائيل تشن عمليات عسكرية وتقصف داخل الأراضي العربية في سوريا ولبنان وغالبا بلا أسباب سوى للرغبة في استعراض القوة وإظهار قدرتها على الاستهتار والاستهزاء بالقوانين والمواثيق الدولية وانتهاك الالسيادة الوطنية لجيرانها العرب وهو ما يؤشر على استحالة السلام معها.
وسادساً: ما تزال النظريات الصهيونية التي تقول بـ"الدولة اليهودية من النيل إلى الفرات" قائمة ولم يتراجع عنها قادة إسرائيل ولا الغالبية العنصرية من الإسرائيليين المجلوبين من بقاع شتى من العالم، ومنذ أيام صرح أحد القادة اليمنيين المتطرفين (وكل قادة إسرائيل متطرفون، من اليمين كانوا أم من اليسار) بإن الضفة الغربية والأردن هي أرض إسرائيلية ولا يوجد شيء اسمه فلسطين أو الأردن.
فما هي إذن فرص السلام الذي يتحدث عنه دعاة السلام؟ وما نوع السلام الذي يدور الحديث عنه؟ وبين من ومن؟
إسرائيل تقوم على عقيدة عدوانية ذات جذور دينية وسياسية، ومنذ تأسيسها وهي لا تدع فرصة إلا وتمارس فيها أقصى أنواع التطرف في العدائية، ولم تكن قط مبادرةً لصنع سلام قابل للحياة، وتجربة أوسلو واتفاقية غزة أريحا لم تسفر سوى عن مزيد من المكاسب لصالح إسرائيل والخسائر للفلسطينيين، وهي لا تكف عن الحديث عن السلام لكنها تريد السلام لها وحدها ولمواطنيها وللمستوطنين وليست على استعداد لتقديم أي ملمح من ملامح التشجيع والتحفيز لقيام سلام عادل وقابل للحياة في المحيط الذي توجد فيه.
سيقول قائل: إن مشكلة إسرائيل هي مع الفلسطينيين فليحلوها فيما بينهم، وما دخل باقي الدول العربية؟
الحقيقة أن هذا القول صحيح بعد أن أعلن العرب تخليهم عن القضية الفلسطينية وانكفأت كل دولة على نفسها، لكن بنفس الوقت طالما ونحن لا نعمل شيء من أجل فلسطين والفلسطينيين فليس من حقنا أن نملي على الفلسطينيين كيف ينبغي أن يتعاملوا مع من يقتل أبناءهم وينهب أرضهم ويهدم منازلهم ويقتلع أشجارهم ويقصف مدنهم ويبني مستوطناته في أرضهم وينتهك مقدساتهم.
إن إسرائيل التي يتهم قادتها حماس والجهاد بالتطرف والإرهاب ويشيدون بالمعتدلين الفلسطينيين، تمارس من الإرهاب ما لم تقم به كل التنظيمات الإرهابية في العالم، ومقابل ذلك لم تقدم شيئًا لهؤلاء المعتدلين الذين عقدوا معها اتفاقات الشراكة والتنسيق الأمني وغيرها من الاتفاقات، وكلنا يعلم كيف كان مصير الشهيد ياسر عرفات وكيف يتعاملون مع محمود عباس.
فلا سلام إلا بتوازن المصالح واحترام حقوق الأطراف المشاركة فيه عدا ذلك يظل سلاماً هشاً زائفاً ظالماً قابلاً للانهيار في أي لحظة، كسلام أوسلو الذي أصبح في حكم الموتى، وبدلا من لوم حماس أو الجهاد علينا أن نلوم من دفع الشعب الفلسطيني إلى اليأس في إمكانية استراداد حقوقه عن طريق السلم والسلام، ولو قضى ناتنياهو وحكومته على حماس فإن ألف حماس ستنشأ من جديد طالما بقي الوضع مختل يقوم على جلد الضحية والدفاع عن الجلاد.