حينما تحدث وزير الخارجية "العابس دائماً" أنطوني بلينكين في مؤتمره الصحفي المشترك مع بنيامين ناتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي، معبراً عن التضامن الكامل للولايات المتحدة مع الدولة الصهيونية، وصفها بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وفي رسالة التضامن التي بعثها ريجي سوناك، رئيس الوزراء البريطاني إلى ناتانياهو مضمناً إياها تضامن بريطانيا الكامل مع الأخير ودولته ضد الإرهاب لم ينس أن يتغنى بديمقراطية إسرائيل الوحيدة في الشرق الأوسط، وفعل الشيء نفسه كل الزعماء الغربيين الكبار والمتوسطين والصغار وسيظلون يتغنون بـ"ديمقراطية" إسرائيل التي لا مثيل لها، وبحضاريتها وتقدميتها وإنسانيتها.
إنهم يقولون هذا ليس لأنهم لا يعلمون بعنصرية ودموية ووحشية الكيان الصهيوني وانتهاكاته لآدمية وكرامة وحقوق الإنسان الفلسطيني، ولكنهم بهذا يبعثون رسائل تغشيش وتضليل إضافية للغالبية العظمى من سكان بلدانهم الذين غسل إدمغة أفرادها الإعلام الصهيوني عن وحشية وهمجية وبدائية وتخلف العرب، وفي المقدمة منهم الفلسطينيون، وعن وجود إسرائيل (الحضارية الديمقراطية والأمة السامية) في محيط من الوحوش وهي الصورة التي ما تزال تحضر بقوة في وعي وثقافة وتصور الملايين من أبناء تلك البلدان، ولا يبالي كل هؤلاء الزعماء في ما إذا كانوا بهذا يستفزون مشاعر ضحايا الهمجية والوحشية والبدائية الإسرائيلية وكل أنصار هؤلاء الضحايا من العرب والمسلمين، ومن غير العرب والمسلمين في شتى بقاع المعمورة، لأن الأخيرين ليس لديهم أموال الحركة الصهيونية ولا إمبرطورياتها الإعلامية المهيمنة على صناعة الرأي العام العالمي ولا عصاباتها الإجرامية التي لن تتورع في استخدامها للتخلص مِن كل مَن تشعر بأنه يشكل خطراً على تلك الهيمنة الصهيونية ولو بالكلمة أو الصورة التي تكشف حقيقتها العدوانية وجوهرها الإجرامي، أما العرب (جيران الفلسطينيين وإخوتهم في الدم والوطن والتاريخ)، فهؤلاء مجرد مستهلكين جيدين للمنتجات الأمريكية والأوروبية وهم سيستهلكون هذه المنتجات إن رضيوا أو غضبوا عن تلك السياسات الغربية غير النزيهة والمنحازة إلى الطرف المعتدي، كما إن حكام العرب لن يتجرأوا على إغضاب أمريكا وبريطانيا وفرنسا وبقية دول النفوذ العالمي، وإن فعلوا ذلك فأين سيودعون ملياراتهم؟ وأين سيبعثون أولادهم للدراسة؟ وأين سيقضون عطلهم السنوية والشهرية، بل والأسبوعية؟ ومن أين سيستوردون مقتنياتهم الفاخرة من الآثاث والسيارات والمجوهرات والعطور وكل مستلزمات الرفاهية والترف الفاحش؟
الذين يتغنون بـ"ديمقراطية" إسرائيل، ثم يدافعون عن جرائمها أو حتى يتجنبون الحديث عن تلك الجرائم، هم يستخفُّون أولاً بوعي وثقافة ومعلومات المتابع المحايد بما في ذلك الناخب الأوروبي أو الأمريكي الذي أوصلهم إلى مواقعهم القيادية، ولذلك لاحظنا ردود أفعال جديدة ليس فقط من معارضين أوروبيين غالباً من اليساريين وأنصار الحركات التحررية والخصوم التاريخيين للصهيونية والاستعمار، بل ومن كتاب ومثقفين وحتى نواب برلمانيين من الأحزاب الحاكمة أو المعارضة الداعمة لإسرائيل، رأيناهم وهو يستنكرون حملة التزييف والتهويل التي أضفاها الإعلام الغربي على عملية حماس يوم 7 أكتوبر، ويدينون بقوة وبكل حرقة الجرائم الصهيونية في حق المدنيين الفلسطينيين وقتل وإصابة آلاف الأطفال والنساء والعجزة، في مناطق النزوح بغزة وداخل المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس بما فيها مدارس الأونوروا (منظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة)،
ويشمل استخفاف هؤلاء القادة المهووسون بـ"الديمقراطية الإسرائيلية" مشاعر جماهيريهم الذين لم يعد مصدر تغذيتهم الإعلامية ينحصر على ما تصنعه المطابخ الإعلامية الصهيونية وتلك الممولة من كبار ممثلي الإمبريالية الغربية المؤازرة للصهيونية، بل لقد صارت تشمل وسائل التواصل الاجتماعي غير المرتهنة لمحتكري وسائل الإعلام المنافقة والمتملقة للصهيونية.
إن أكبر المتضررين من ذلك النفاق والتضليل السياسي والإعلامي الغربي هو "الديمقراطية نفسها"، فاللذين يقدمون إسرائيل على إنها الواحة الديمقراطية الغناء الوحيدة في الشرق الأوسط، متجاهلين جرائمها التي يندى لها جبين كل ذي ذرة من الإنسانية والضمير الحي، إنما يصورون للعالم أن الديمقراطية هي هكذا، لا علاقة لها بالحقوق والحريات واحترام كرامة الإنسان، وجميع معايير وضوابط العلاقات الدولية والإنسانية والقانون الإنساني الدولي، أو إن الديمقراطية هي رديف لانتهاك حقوق الإنسان والاعتداء على المؤسسات التربوية والطبية والدينية بمن فيها من البشر مهما كانت أعمارهم أو وضعهم الصحي أو موقفهم السياسي أو دياناتهم أو وظائفهم الإنسانية.
إن الديمقراطية التي تقتل الأطفال والأطباء والمرضى فوق أسرَّتِهم والمتعبدين في معابدهم والنازحين في ملاجئهم إنما هي ديمقراطية زائفة مجرمة مجردة من كل المعاني إلَّا من اسمها فقط.
لقد سقط دعاة الديمقراطية (الصهيونية) والمؤيدون لها سقوطاً أخلاقياً وسياسياً وإنسانياً مروعاً، وغداً لن يجدوا ورقةَ توتٍ يغطون بها عوراتهم السياسية والأخلاقية.
وإن غداً لناظره قريبٌ.