تأتي دعوة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى التوصل لـ«تسوية شاملة تلبي تطلعات جميع اليمنيين» في لحظة سياسية فارقة، تتقاطع فيها التحولات الميدانية مع المتغيرات الإقليمية والدولية، ما يجعل من هذه الدعوة فرصة حقيقية لإعادة طرح قضية شعب الجنوب بوصفها قضية سياسية مكتملة الأركان، لا يمكن تجاوزها أو اختزالها ضمن أطر تسويات تقليدية أثبتت فشلها.
أولاً: دلالات الخطاب الأممي وتحوّل المفهوم
تحمل عبارة «تلبي تطلعات اليمنيين» دلالة سياسية عميقة، إذ إنها تتجاوز الصيغة التقليدية التي اعتادت الأمم المتحدة استخدامها في الحديث عن «الحكومة الشرعية» أو «الأطراف المتنازعة»، لتنتقل إلى الاعتراف الضمني بتعدد الإرادات السياسية والهويات الوطنية داخل الجغرافيا اليمنية.
وفي هذا السياق، فإن شعب الجنوب، الذي عبّر مراراً وبوسائل سلمية وجماهيرية عن تطلعه لاستعادة دولته، يمثل أحد أبرز هذه الإرادات التي لا يمكن القفز عليها في أي تسوية مستقبلية.
ثانياً: فشل نموذج الوحدة كمرتكز للتسوية
على مدى أكثر من ثلاثة عقود، أثبتت تجربة الوحدة اليمنية فشلها الذريع في بناء دولة عادلة أو شراكة حقيقية، حيث تحولت إلى أداة للإقصاء والتهميش، وأنتجت حروباً وصراعات متتالية كان الجنوب أحد أبرز ضحاياها.
وعليه، فإن أي تسوية لا تنطلق من تشخيص جذري لأسباب الصراع، وفي مقدمتها فشل الوحدة بصيغتها القائمة، ستبقى مجرد إعادة تدوير للأزمة، وهو ما يتناقض مع جوهر دعوة غوتيريش لتسوية «تلبي التطلعات» لا تُعيد إنتاج المأساة.
ثالثاً: الجنوب كقضية سياسية لا يمكن تجاوزها
لم تعد قضية الجنوب مطلباً نخبوياً أو شعاراً عاطفياً، بل تحولت إلى قضية سياسية واضحة المعالم، تمتلك، إرادة شعبية واسعة تجلت في الفعاليات الجماهيرية والاعتصامات المفتوحة، بالإضافة الى وجود حاملاً سياسياً منظماً ممثلاً بالمجلس الانتقالي الجنوبي.
كما تمتلك إرادة شعب الجنوب قوة أمنية وعسكرية لعبت دوراً محورياً في مكافحة الإرهاب وتأمين الممرات الدولية.
كما تمكنت القيادة الجنوبية من الإدارة الفعلية للواقع على الأرض في معظم محافظات الجنوب.
هذه المعطيات تجعل من الجنوب طرفاً فاعلاً في أي معادلة سلام، وليس ملفاً يمكن ترحيله أو إلحاقه بتسويات جزئية.
رابعاً: تقرير المصير كمدخل قانوني للتسوية
تنسجم تطلعات شعب الجنوب في تقرير مصيره واستعادة دولته مع مبادئ القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، لا سيما حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ومن هذا المنطلق، فإن دعوة غوتيريش يمكن أن تشكّل مدخلاً قانونياً وسياسياً لإدراج قضية الجنوب ضمن مسار تفاوضي مستقل، يفضي إلى حل عادل ومستدام، بدلاً من فرض حلول فوقية ثبت فشلها.
خامساً: البعد الإقليمي والدولي لقضية الجنوب
لا يمكن فصل استقرار الجنوب عن أمن المنطقة والعالم، فالجغرافيا الجنوبية تمثل، شرياناً حيوياً للملاحة الدولية، وخط دفاع متقدم في مواجهة الإرهاب، وعامل توازن إقليمي في ظل تصاعد التهديدات العابرة للحدود.
ومن هنا، فإن دعم المجتمع الدولي لخيار استعادة الدولة الجنوبية لا يخدم الجنوب وحده، بل يحقق مصالح أمنية واستراتيجية أوسع، وهو ما يمنح القضية الجنوبية زخماً إضافياً في أي نقاش دولي جاد.
فرصة سياسية لا يجب تفويتها
تفتح دعوة الأمين العام للأمم المتحدة الباب أمام مقاربة جديدة للأزمة، مقاربة تعترف بتعدد التطلعات وتقرّ بحق الشعوب في اختيار مستقبلها.
وبالنسبة لشعب الجنوب، فإن هذه الدعوة تمثل فرصة سياسية يجب استثمارها بذكاء دبلوماسي وخطاب مسؤول، يربط بين الإرادة الشعبية والشرعية الدولية، ويؤكد أن الخروج من عنق الوحدة اليمنية لم يعد خياراً أحادياً، بل ضرورة لتحقيق سلام حقيقي ومستدام، بدعم وقرار دولي موثوق.
إن تجاهل قضية شعب الجنوب اليوم لم يعد ممكناً، وأي تسوية لا تضعها في صلب الحل ستظل قاصرة، فيما يبقى تمكين شعب الجنوب من تقرير مصيره واستعادة دولته هو الطريق الأقصر نحو إنهاء الصراع وبناء استقرار دائم في المنطقة.