هل نحن أمام حالة نفسية جماعية أصابت معظم النخب اليمنية في “الشمال”، أم أمام نزعة عدائية متجذّرة يصعب تفسيرها عقلانيًا. ؟ كيف يمكن لإنسانٍ سوي، فضلًا عن كونه قائدًا أو مثقفًا محسوبًا على النخب، أن يملأ الفضاء الإعلامي بخطاب عن “قدسية الوحدة اليمنية”، وفي الوقت ذاته يدعم تمزيق شعب الجنوب، وينزعج من وحدة الجنوبيين وتماسكهم؟ القوى اليمنية المصنَّفة كمناهِضة للحوثي — وهي اليوم في أضعف مراحلها، ونازحة تحت حماية القوات الجنوبية — ترفض حق الجنوبيين في السيطرة على أرضهم، ومكافحة الإرهاب والتهريب في وادي حضرموت والمهرة. ومنذ عشر سنوات، تمارس أغلب هذه القوى سياسات ممنهجة لتعطيل الخدمات في الجنوب، وقطع الرواتب، وشنّ حرب اقتصادية ونفسية قاسية ضد شعبه، في الوقت الذي ترفض فيه محاصرة مليشيا الحوثي، وتُبقي له السيطرة على مفاصل حيوية كالاتصالات والبنوك والوكالات.
وفي المقابل، تماطل هذه القوى وتعرقل أي تقدم حقيقي في مسار القضية الجنوبية سياسيًا، بل تعطل حتى تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في مخرجات مشاورات الرياض، بما في ذلك تشكيل فريق تفاوض خاص بالقضية الجنوبية. وتسعى هذه القوى إلى إيهام المجتمع الدولي بأن “القضية الجنوبية عادلة وسيتم حلها بعد تحرير صنعاء”، في خطاب تضليلي يهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف، أبرزها: 1
. استثمار الحرب ونهب الدعم الخليجي، وإطالة أمدها دون تحقيق نصر حقيقي.
2. مواصلة الحرب الاقتصادية على شعب الجنوب بشكل تراكمي، بهدف إنهاك حاضنته الشعبية، وإضعاف الجنوب والتحالف معًا.
3. تشويه صورة التحالف العربي، وإظهاره كطرف معادٍ للجنوب أو غير مكترث بتضحياته في مواجهة المشروع الإيراني.
4. إبقاء الجنوب في حالة عدم استقرار سياسي وأمني، ومنعه من التحول إلى شريك قوي وفاعل في معركة إنهاء الانقلاب الحوثي.
5. استخدام الجنوب كورقة ضغط تفاوضية، لا كقضية شعب له حق تقرير مصيره.
ومن المستحيل إقناع أي إنسان عاقل حتى لو كان لم يبلغ سن الرشد بأن من يخطط اليوم لتفتيت الجنوب وإنهاء قضيته العادلة، سيكون صادقًا في حلها مستقبلًا . فمن ينزعج من توحيد الجنوب، ومن بسط سيطرة القوات الجنوبية، وتحويل الجنوب إلى كتلة صلبة تحت قيادة واحدة، إنما يحمل في داخله عقلية كهنوتية حوثية، وإن غُلِّفت بشعارات دينية أو قومية زائفة . هذه القوى تستثمر الحرب، وتريد الجنوب رهينة بيد الحوثي، رغم تحرره من قبضة الحوثي منذ عشر سنوات. ورغم إدراكها أن ما أنجزته القوات الجنوبية من تأمين “الجنوب المحرر” سوف يشكل منطلقًا حقيقيًا لتحرير الشمال، إلا أن ذلك لم يرق لغالبية تلك القوى .
ولو كانت صادقة في عدائها للمشروع الإيراني، لاستجابت لدعوة رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، القائد عيدروس الزبيدي، بتشكيل غرفة عمليات عسكرية مشتركة، وإعلان حالة تعبئة عامة، والانقضاض على مليشيا الحوثي من كل المحاور. فبوحدة الجبهة القتالية، كان يمكن إنهاء سيطرة الحوثي على الشمال كما تم دحره في الجنوب خلال أشهر قليلة. لكن، وللأسف، قوبلت تلك الدعوات الصادقة بحملات تحريض وهجوم على القوات الجنوبية، في مفارقة فاضحة، تحت ذرائع واهية من قبيل: “لماذا أحكمت القوات الجنوبية سيطرتها على الجنوب؟”. وهنا يبرز السؤال الجوهري :
هل هذه القوى فعلًا ضد الحوثي والمشروع الإيراني، أم أنها توظف العداء له كشعار، بينما تلتقي معه موضوعيًا في استهداف الجنوب وقضيته العادلة ؟