في معنى الجامعة والمهنة الأكاديمية

في معنى الجامعة والمهنة الأكاديمية

قبل 9 سنوات

 تعد الجامعة مقومًا أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات وتنميتها المستدامة فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع ومركزاً لحفظ وتداول ونقد وتجديد وتطوير وإنتاج المعرفة وتطبيقها، ومنارة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير وهي أهم مؤسسة استراتيجية في تاريخ الحضارة الحديثة وذلك لإسهامها الفاعل في نهضة وازدهار الحياة الإنسانية الحديثة والمعاصرة في العالم أجمع، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: الوظيفة التدريسية، المتمثلة في حفظ وتعليم ونقل وتداول المعرفة. ووظيفة البحث العلمي: المتمثلة في نقد وتجديد وإنتاج وتطوير المعرفة ووظيفة خدمة المجتمع وتنميته: في استعمال وتطبيق المعرفة العلمية وبحث ودراسة وحل المشكلات الاجتماعية، بالإضافة إلى كونها -أي الجامعة- تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المستقلة والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة وإدارة فنية عالية الجودة وقيم ومعايير مهنية أكاديمية علمية شاملة ومجردة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل والتام الأتم والمثال الأمثل. فهي نزوع دائماً نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر صواباً والأكثر نفعاً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم، ومن أرقى ما تكون معالي الأمور. بما يؤمن بلوغ أعلى مراتب الجودة والاعتماد الأكاديمي الشامل.

وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في العصور الوسطى تتمتع بقدر كبير من الحرية والاستقلالية، وكانت الحرية الأكاديمية هي السمة المميزة للمؤسسات الأكاديمية وهذا ما جعلها تتمتع بـ «حرمة» شبه مقدسة تحميها وتصونها من انتهاكات واختراقات مجالات المجتمع ومؤسساته الأخرى، ويرتكز حق الجامعة بالحرية التامة على مبدأ الحقيقة العلمية المستقلة والمحايدة ومسؤولية هيئتها العلمية في معرفة هذه الحقيقة ونقدها أو مناقشتها، دون أي قيود أو مخاوف محتملة. وتعتبر حرية الجامعة واستقلالها من التقاليد التي ورثتها الجامعات الحديثة والمعاصرة عن جامعات العصر الوسيط. ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ إن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، وحاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأوكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية.
والأكاديمية ليست صفة شكلية خارجية يمكن لصقها على بوابات مؤسسات التعليم العالي ومستنداتها، كما قد يعتقد أو يتوهم، بل هي شبكة واسعة من التقاليد والقيم والمبادئ والقواعد التي يجب أن يتمثلها كل منتسبي المؤسسة الجامعية لاسيما أعضاء هيئتها التدريسية والمساعدة والطلاب ويلتزمونها في الأقوال والأفعال والأفكار والممارسات ولا وجود لهذه الصفة المهنة «أكاديمي» في أي مكان آخر خارج عن أفعال وسلوك وتفاعلات وعلاقات وأداء وأدوار وتمثلات المنتمين إليها وهذا ما أكده مؤرخ العلم البريطاني كلارك كير Clark Kern بقوله: «تم إنشاء نحو 85 مؤسسة من مؤسسات المجتمع العامة في العالم الغربي بنهاية عام 1520م وما زالت قائمة بأشكال معترف بها وبنفس وظائفها المتوارثة وبتاريخ مستمر دون انقطاع وتضم الكنيسة الكاثوليكية وبرلمانات آيل أوف مان أيسلاندا، وبريطانيا وعدد من الأقاليم السويسرية و70 جامعة ولقد ذهب ما كان يعرف بالملوك التي تحكم واللوردات والإقطاعيين بخدمهم ونقابات التجار والصناع باحتكاراتهم ذهبوا جميعهم في ذمة التاريخ في حين أن الجامعات لا تزال موجودة في مواقعها ومحتفظة ببعض مبانيها القديمة ويؤدي أساتذتها وطلابها والإدارة ما يشبه التقاليد والقيم المتوارثة المستمرة ذاتها عبر الأجيال. ورغم حداثة نظام الجودة بالقياس إلى عراقة مؤسسات التعليم العالي إلا أن المؤسسة الأكاديمية بتاريخها الطويل حرصت على الاحتفاظ بمستوى محدد من الجودة باعتبارها مرادفاً للتمييز أو الامتياز أو النوعية الجيدة التي تقع في صميم المهنة الأكاديمية منذ أكاديمية أفلاطون.
وفي عالمنا المعاصر، عالم العولمة وما بعد الحداثة، وعصر ثورة المعلومات والاتصالات والعلم والبحث العلمي، تواجه مؤسسات التعليم العالي تحديات حاسمة ورهانات عسيرة لم يشهد لها تاريخ المؤسسة الأكاديمية مثيلاً.
ويصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسيو ثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، إذ إن الجامعة ليست جزيرة منعزلة عن المجتمع التي توجد فيه، بل هي جزء منه ومتأثرة فيه. وكما أن مسألة نمو العلم وازدهار مؤسساته هي مسألة ليست علمية بل اجتماعية سياسية حضارية وثقافية، فكذا هي المؤسسة الأكاديمية ونموها تظل مشروطة بتوافر جملة من العوامل والمعايير والقيم الثقافية المؤسسية القانونية التظيمية والإدارية والمالية العلمية والبحثية، والمهنية الأكاديمية والأخلاقية العالمية المجردة.

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر