كما في الأفلام القديمة يهرع الفتى الوسيم ليضبط الكاميرا ثم يجري ليقف بجانب حبيبته، جميعهم أمام الكاميرا الآن؛ ينطلق الفلاش، تظهر الصورة البهيجة، القيّمة بطبيعتها؛ تصبح إرثًا إنسانيًا، وتظل محفوظة في ذاكرة كل الأجيال التي تتعاقب على الإشارة إليها .. أبي و أمي في شبابهما.. جدتي وجدي في شهر العسل .. الخ ..
لم يكن هذا يسمى "سيلفي" على كل حال ..
لذا يتعين أن أنبه بأن هذه المقدمة عبثية ولا تمت للقادم بصلة.
والأصل أني أبدو مبتسمة بلا رفقاء في الصورة "السيلفي" هذه.
ومثلي عشرات الآلاف ممكن يوثقون حضورهم المنفرد على الشاشات يوميًا.. دعوني أؤكد لكم بإني لم أكن سعيدة ولم تكن حاجتي ملحّة لتوثيق وحدتي هذه؛ أو لحظتي هذه، لأنها بلا مغزى فعلي، تمامًا مثل كل الناس. غير أنها حالة عامة من التباهي بالعزلة والحضور الخالي من أي معنى؛ يغيب فيها الآخر وقيمة الذكرى وتظهر الكاميرا. ثم تتحول الحالة الخاصة إلى شراكة عامة.. وتتحول العدمية إلى قيمة من نوع ما.. فتذوب قساوتها وخصوصيتها معًا. .
نعتصر حول ذواتنا كلما تقدمت أساليبنا في الاستغناء عن الآخر الإنسان في مقابل شراكة الآلة والافتراض؛ وتتكثف مع ذلك شهوتنا للظهور والمشاركة وخلق الانتباه، إنه انتقام المجتمع من المجتمع والإنسان من طبعه الاجتماعي، أو لعله حضور الفراغ والأنا في مظروف شبه خالي مكتوب عليه بخط عريض: تواصل اجتماعي.
الـ سيلفي هو إدعاء الافتراض على الواقع، هو مئات النسخ والأشكال المدّعاة من لحظة حقيقة واحدة لاتشبه أيا من أشكالها أو نسخها، هو غياب الهيبة الحقيقية للحظة المميزة، للإيثار الذي يجعل أحدهم يستغني عن الحضور في الصورة في مقابل صنعها.
يصطحبنا الناس معهم الآن إلى كل مكان وكل وضع، سيلفي قبل النوم، سيلفي وفي يدي القهوة، سيلفي وأنا انزل في المصعد، سيلفي مع صديقي الذي خرجت معه ولم نتحدث قبل أن يعلم العالم بلقائنا، صورة لطبقي الذي لن آكله قبل أن تعرفوا موضع الطماطم فيه، سيلفي مع شنطتي الجديدة التي اشتريتها لتعجبكم، سيلفي في الطريق مع المشاة الطبيعيين الذين سأثبت أني منهم يومًا ما، سيلفي من أجل اللاشيء هذه المرة.
يصنع الناس اللحظات للآخرين فقط في أوقات نادرة جدًا الآن .. ولن أقول يحتفظون بهذه اللحظات لأنفسهم احترامًا للذة الخصوصية في أوقات أندر ! لأن النادر هنا في حكم المعدوم !
رأيتُ أحدهم وقد وضع صورة والدته المسجاة على فراش الموت في صفحته في موقع التواصل الاجتماعي، فانهالت لأجله التعازي، فلم يصبر على غيابه في قلب المأساة المغدقة يومين؛ حتى أنزل "سيلفي" له لوحده هذه المرة لا يزاحمه فيه أحد حتى الخجل، محاولًا أن يثبت فيه ملامح الحزن العميق . وما يدرينا في ظل هذا الزيف؛ لعلّه كان يضحك قبل ذلك بثانية فقط .