المُستشار لغةً اسم مفعول مِن استشارَ، وهو خبيرٌ متخصِّص يُؤخذ رأيُه في أمر هامّ، علميّ أو فنّيّ أو سياسيّ أو قضائيّ أو نحو ذلك.. والمشورة هي استنباطُ المرءِ رأيَ غيره فيما يعرض له من الأمور المُعْضلة حتى يتحقق منها.
وقد أمرَ اللهُ عزَّ وجل النبي الكريم بمشاوَرةِ مَنْ هو دونه من أصحابه فقال سبحانه:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} وذَهب المفسِّرون إلى أنّ اللهَ تعالى لم يأمر نبيَّه بمُشاورةِ أصْحابِه لِحاجةٍ منه إلى رأيهم ولكن ليُعلَمَ ما في المُشاورة من البركة والنّماء. وقال صلّى الله عليه: " المستشار مؤتمن " ؛ فكأنه أرشد من اُستشير إلى الأمانة بما وصفه به لأنّ المستشير لم يلق إليه ذات صدره حتى جعله أميناً في نفسه. ولا بد أن يكون المستشارُ مَجرَّباً حازِماً ناصِحاً رابطَ الجأشِ غيرَ مُعجبٍ بنفسه ولا متلوِّنٍ في رأيِه ولا كاذبٍ في مَقاله ، فإنَّ مَنْ كَذَبَ لسانُه كذبَ رأيُه.
وفي الدول المتقدمة فأن لقب (سعادة المستشار) له مكانته واحترامه، ولا يحصل عليها إلا من يحملون الرؤية المهنية والعلمية المتميزة بغرض الاستفادة الفعلية من تجاربهم في مجال تخصصهم.
لكن ما يعتمل في بلد العجائب والغرائب، وما رأيناه منذ عهد الرئيس المقتول عفاش من غريب وعجيب التعيينات، يخالف هذا المعنى جملة وتفصيلاً، حتى أفقد كلمة (مستشار) معناها وأفرغها من مضمونها الحقيقي وجعلها مثاراً للسخرية والطرافة، حيث تكاثر في عهده جيش المستشارين الذين لا يستشارون في هيئات الدولة وسلطاتها المركزية والمحلية، حتى أصبحوا عبئاً كبيراً لا مبرر لوجوده، ورغم كثرتهم فأن ما يجمع بينهم أنهم لا خبراء ولا متخصصين في أي أمر هام، وتبعاً لذلك لا يمارسون عملا محدداً ولا مكاتب لهم ولا يلجأ إليهم أحدٌ لطلب مشورتهم، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، باستثناء قلة منهم.
ويعرف القاصي والداني أن اسلوب التعيين في هذا المنصب كان يتم لاعتبارات سياسية غالبا، أو لكسب ود المعينين أو لمكافأتهم على ولائهم الشخصي أو للتخلص من بعضهم بإزاحتهم من مناصبهم المرتبطة بتخصصاتهم إلى مثل هذا المنصب الوهمي الذي لا طعم ولا لون ولا رائحة له.
بل أن المخلوع لجأ إلى استحداث وتأسيس مجلس شورى (استشاري) رديفا لمجلس النواب، وأصبح الناس يطلقون عليه تندرا (سلة المهملات)، حيث أصبحت عضويته مفتوحة لا تتوقف عند عدد محدد، وكل من فقد منصبه الوزاري أو القيادي ألقى به إلى هذه السلة، وأعتقد أنه يستحيل أن يعرف أحدٌ اليوم كم بلغ عدد أعضاء مجلس الشورى، أما مهامه فحدث ولا حرج.. ومن أطرف ما أتذكره عن مجلس الشورى أنني سمعت اللواء عبدالله علي عليوه بعد تعيينه وزيرا للدفاع مباشرة ، يقول لبعض مهنئيه حينها بطرافته المعهودة:" رئيس أركان دائم خير من وزير مؤقت في انتظار الحذف إلى سلة المهملات"، ويقصد بذلك مجلس الشورى..!!
كثيرون للأسف ممن عُيّنوا بمنصب مستشار يعرفون أنهم غير جديرين بذلك، لا من حيث تخصصتهم ولا من حيث خبرتهم أو مستوياتهم الدراسية، ويعرفون فقط أنهم قد حصلوا على منصب "مستشار ..لا يُستشار"، ولو قلّبنا في تخصصات وخبرات هذه الأعداد من جيش المستشارين وعملنا جرداً بهم في كل مؤسسة أو مرفق أو محافظة ..الخ. لوجدنا أن معظمهم لا صلة لهم بمجالات مواقعهم الاستشارية..وقس على ذلك مناصب (الوكلاء) سواء في الوزارات أو المحافظات، وبعيداً عن الكفاءات أو التخصصات.
ولأمثال هؤلاء أورد عظة من التاريخ، لعلهم يتعظون. فقد استشار عبد الله بن علي العباسي ابن المقفع فيما كان بينه وبين أخيه الخليفة المنصور فرد عليه ابن المقفع بقوله:" لست أقود جيشاً، ولا أتقلد حرباً، ولا أشير بسفك دم، وعثرة الحرب لا تستقال، وغيري أولى بالمشورة في هذا المكان". واستشار زياد رجلاً فقال له:" حق المستشار أن يكون ذا عقل وافر واختبار متظاهر، ولا أراني هناك".
ختاماً.. لا أدري لماذا نحافظ على مثل هذا الإرث السيء، الذي انتهجه المخلوع عفاش وكأنه قاعدة مسلّم بها، وإلى متى نسير على هذه القاعدة العرجاء؟!!