عدن ليست مدينة ولكنها قلعة حارسة لمشروع سياسي واقتصادي وعسكري وأمني متكامل الأركان، يمتد من باب المندب إلى آخر نقطة مع الحدود العُمانية، بعمق الجبال الغربية والصحاري الشرقية، تكتنز في داخلها احتياطيًا كبيرًا من النفط والغاز والمعادن الثمينة والمواقع الاستراتيجية المتحكمة بالتجارة الدولية، إضافة إلى ثروة هائلة من الثروة البحرية والامتداد الاقتصادي القاري، وهي قبل كل ذلك تمثل شعب الجنوب بكل شرائحه الاجتماعية.
سُلمت عدن في عام 90 تحت غطاء المشروع القومي الوحدوي بسلمية وغباء سياسي لا مثيل له في التاريخ لحكام صنعاء من التحالف القبلي العسكري المتخلف، والذي أدار اللعبة السياسية الموكلة إليه بعقلية القبيلي المتخلف، مستخدمًا القبضة الحديدية، وسرعان ما شن حربًا عام 94 م والتي تسببت في جرف كل أدوات الإدارة والسلطة والنظام والقانون للدولة، من مؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية في عدن والجنوب، وتم استبدالها بأدوات إدارية وأمنية وعسكرية واقتصادية متخلفة، ولَم يأبه حتى للنصائح التي كانت تُسدى إليه من قبل النظام العالمي السائد آنذاك بإجراء انفراج سياسي وتوسيع المشاركة وغير ذلك، وبدلًا من أخذ تلك النصائح بعين الاعتبار أعلن عن قلع العداد وبذلك أشعل شرارة ثورة الشباب التي سرعان ما احتوتها المعارضة الإسلامية وسيطرت عليها حتى سقوط النظام.
سقط نظام صنعاء وآلت كل مؤسسات الدولة ليتسلمها متعهد جديد قادم من كهوف طهران، ولَم يعترض عليه أحد من القوى السياسية المحلية ولا الإقليم ولا العالم، اعتقادًا منهم بأنه سيكون طوع أمرهم ولن يستطيع إدارة الدولة بدونهم، وكل ينظر إليه على أنه حصان طروادة يمكن عبره التحكم بدفة الأمور بسلاسة، وخاصة زعيم المؤتمر الشعبي العام الذي تحالف معه، لكن منذ الوهلة الأولى وبعد استكماله السيطرة على مقاليد السلطة في صنعاء استدعى الحليف الإيراني الذي لم يتأخر في أخذ موقعه داعمًا سياسيًا وعسكريًا وحاميًا للنظام الجديد، وعندها أعلن بأن العاصمة العربية الرابعة تحت السيطرة، وأصبح الحلم الفارسي حقيقة على أرض اليمن، ولَم يتبقَ إلا أن يذهب إلى عدن القلعة الأخيرة لاستلامها، وتكون قد اكتملت السيطرة على بحر العرب وباب المندب والبحر الأحمر.
كانت كل التوقعات بأن عدن ستسقط خلال ايّام لأسباب عديدة، منها بأنها خالية من القوات العسكرية التي يمكن أن تدافع عنها، بل العكس من ذلك لقد كانت كل القوات العسكرية والأمنية المرابطة في عدن وحواليها والتي كانت تقدر بأربعين لواء تتبع نظام صنعاء، الذي استسلم للحوثي، وإضافة إلى أن الحراك الشعبي السلمي لم يكن موحدًا، ولَم يملك الإمكانيات العسكرية التي تؤهله للدفاع عن عدن مقارنة بحجم القوات المعادية، ولكن تفاجأ العالم بظهور المارد الشعبي المتمثل بالمقاومة المسلحة الجنوبية الممتدة من عدن إلى لحج والضالع شمالًا، ومن عدن إلى الصبيحة غربًا، ومن عدن إلى أبين وشبوه شرقًا دون الاستئذان من أحد، وفِي البداية كانت الأوضاع صعبة وغير متكافئة ولكن بالإرادة والصمود الأسطوري جاء الدعم من التحالف العربي المتمثل في السعودية ودولة الإمارات العربية المتحده، وتحقق النصر وتم تحطيم المشروع الإيراني على شواطىء عدن وباب المندب ومحاصرته في المناطق الشمالية.
تعرضت عدن بعد تحقيق النصر للعديد من المؤامرات منها انتشار الخلايا النائمة للإرهاب المتمثل بالقاعدة وأخواتها، وهذه العناصر كانت تدار من القصر الجمهوري بصنعاء قبل الانقلاب وتم تشغيلها من جديد وكانت تهدف إلى السيطره على عدن وتقسيمها إلى مربعات تنشر الرعب والاغتيالات للقادة الجنوبيين، ولَم تنجح هذه المحاولات وتعرضت عدن لتعطيل الخدمات والمماطلة في صرف الرواتب لموظفي الدولة والمتقاعدين وإهمال البنية التحتية، وتلاقت أهداف الانقلابيين مع أهداف الشرعية الإخوانية في السيطرة على عدن، ولكن كل هذه المؤامرات تحطمت أمام الصمود الأسطوري لشعب الجنوب ومقاومته الباسلة.
وتعرضت المدينة لمحاولات عديدة ومكشوفة من قبل الشرعية الإخوانية بعدم اعترافها بالأمر الواقع الجديد، بل قادت حربًا مكشوفة في يناير من عام 2018 قادها رئيس الوزراء آنذاك أحمد عبيد بن دغر، وخرج منها مهزومًا، وفِي المرة الثانية في بداية اغسطس 2019 وبعد اغتيال العميد منير اليافعي ورفاقه في مجزرة معسكر الجلاء، وكان قائدها نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية أحمد بن أحمد الميسري يساعده وزير النقل صالح الجبواني وخرج منها مهزومًا.
وفِي المرة الثالثة أيضًا في غزوة 28 اغسطس من عام 2019 م قادها عن بعد نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية ومعه وزير النقل صالح الجبواني وآخرون من الجنوب والشمال، ووصلت طلائع تلك الغزوة إلى مشارف عدن ورصدت الشرعية، كما أظهرت الوثائق، ثلاثمئة مليون ريال سعودي لشراء الذمم الجنوبية الرخيصة وكادت تلك الغزوة أن تحقق أهدافها؛ كونها استخدمت الإعلام الخارجي على أوسع نطاق، بينها محطات تلفزيونية عالمية وإقليمية تتبع دولًا إقليمية، بعضها داخله في التحالف العربي والبعض الآخر يقف على النقيض من التحالف، روجت للغزوة وعرضت مقاطع مصورة عن انتصارات وهمية لعناصر الغزوة من داخل عدن، كانت تعتبر خلايا نائمة ظهرت للسطح في أماكن معينة بجوار المنشآت الحيوية في مدينة عدن، ولكن كان الفشل حليفهم وعادوا أدراجهم للتمركز في شقرة وعتق، وما زالت أجواء الحرب تخيّم على المنطقة، رغم وجود اتفاق سياسي وعسكري وأمني رعته السعودية وحتى الان لم ينفذ منه شيء.
خلال الشهور القليلة القادمة بل الأسابيع القادمة هناك موعد مع حرب جديدة وغزوة باتجاه عدن من مختلف الاتجاهات من الشرق والغرب والشمال، ومقدمات ذلك هو التلكؤ في تنفيذ اتفاقية الرياض من قبل الشرعية، وتخاذل التحالف في إبداء الحزم والصرامة في تحويل الاتفاق إلى خطوات عملية وفقًا للتوقيتات الملزمة، وفِي الجانب الآخر يجري تهيئة المسرح العملياتي من خلال إعادة تشغيل فرق الاغتيالات للقيادات الأمنية والعسكرية في عدن على نطاق أوسع، ويوميًا، ومعروف من يقف وراءها، وهذه حرب إبادة للكوادر الجنوبية؛ لنشر الرعب والخوف في صفوف المجتمع العدني، وفي ظل تواجد التحالف والحكومة.
وفِي الجانب الآخر يجري وعلى نطاق واسع البسط العشوائي المنظم لأراضي عدن؛ بهدف خلق الفوضى وإشغال الناس في معارك جانبية، وأيضًا عدم الدفع بانتظام مرتبات للجيش والأمن والمتقاعدين الجنوبيين، وتعطيل الخدمات من ماء وكهرباء مع وجود الحكومة في عدن لتدير الفوضى، وفِي نفس الوقت التحشيد المستمر لقوات قادمة من مآرب ومن وادي حضرموت إلى عتق وشقره وغيرها من المناطق المحيطة بعدن، خلافًا لاتفاق الرياض، وأيضًا يتم اغتيال من يعارض الشرعية سواء كان في مآرب أو تعز كما حدث للحمادي في تعز أو أي منطقة أخرى من القيادات التابعة للشرعية، وإذا كانت الشرعية في آخر غزوة رصدت ثلاثمئة مليون ريال سعودي يا ترى كم سترصد هذه المرة من أموال لتنفيذ الغزوة القادمة، وكم سيكون سعر كل من يتم شراؤه من الجنوبيين. والشيء المثير للدهشة أن الشرعية خلال خمس سنوات لم تفكر باستخدام مثل هذه الأساليب نحو تحرير العاصمه صنعاء.
على ما يبدو أن في الشرعية شرعيات، وإلا لما وجد هذا التخبط وتضييع الوقت في تصرفات تبدو طفيلية، وهي تدري أو لا تدري بأن عدم التنفيذ سيقود إلى حروب يستفيد منها أعداء اليمن شماله وجنوبه، وعليها أن تعيد حساباتها وتنخرط في تنفيذ الاتفاق. وقد أبدى المجلس الانتقالي مرونة كاملة كشريك مسؤول لردم الهوة وتوحيد الجهود نحو إسقاط المشروع الإيراني.
إن سقوط عدن يعني سقوط المشروع العربي برمته، وإن السماح لحزب الإخوان المسلمين بإدارة الشرعية حيثما وكيفما يشاء يعني تسليم عدن لتركيا، كما أن صنعاء قد تم تسليمها لإيران، وأن تنسيقًا قد تم بين المشروعين الفارسي والتركي في تقاسم اليمن جنوبًا وشمالًا، وأعتقد جازمًا أن ذلك المشروع لن يمر طالما وجد شعب الجنوب حيًا وحارسًا أمينًا للبوابة الجنوبية للأمن القومي العربي، وفِي نفس الوقت لا أعتقد بأن التحالف العربي سيتخلى عن شعب الجنوب في هذه المعركة المصيرية التي ستحدد نجاح أو فشل المشروع العربي، وفِي النجاح ضمان الأمن والاستقرار لدول الجزيرة والخليج، والفشل يعني الاستمرار في زعزعة الأمن والاستقرار ووقف التنمية والدخول في سباق تسلح وتعريض المنطقة لتدخلات أجنبية تستنزف الموارد وتعطل كل أشكال الحياة في المنطقه برمتها، والآن يبدو أن الكرة قد استقرت في مرمى الشرعية والتحالف، وهما اللذان سيقرران إلى أين ستصوب الكرة، هل نحو تنفيذ اتفاق الرياض أو نحو السماح لمرور المشروع التركي إلى عدن، في حين أن الجنوب قد حسم أمره بأن ذلك المشروع لن يمر.