من أراد أن يفهم كيف تفكر المملكة من واقع أدائها في اليمن فعليه أن يعيش “سبع حيوات” متتالية حتى يستكمل مسح كل الدهاليز والأزقة والحارات في كوكب الطبقات السياسية والأجهزة والأدوات المختلفة هناك.
لا شيء منطقي، أيها القارئ، لا شيء منطقي في الحرب وفي الحكم وفي زمن الموت والجوع والماليخوليا، فأنت “عابرٌ في موتٍ عابر”.. وعليك أن تكون أهطلاً أو مريداً أعمى، إن شئت، كي ترى مسار “عاصفة الحزم المقدسة” بعيني (العربية والحدث)! لكن يجب أن (لا) تكون قيادياً تتحمل أمانة كبرى وتتصالح مع ضميرك وتحتمل ثقة الناس فيك.
هناك إخفاق كارثي متلازم مع “عاصفة الحزم” وهي تدور حول محور إخوان اليمن، تراقب هزائمهم وتستجيب لابتزازهم الإعلامي دون مراجعات أو إعادة قراءة الواقع في ضوء التجربة المرة. يقابل ذلك ظلمة بصر يعيشها قليلو الحيلة المتكئين على هيبة قائدة التحالف وفرضية درايتها وطول نفسها “المدروس اللامحسوس” الذي (ذبل وانتسى) من فرط طوله، وأدخل جمهور المجتهدين في حيرة صمّاء لا تنقذهم منها سوى خوارزمية خارقة تعيد نظرياً ترتيب الأحداث وفق منطق العاصفة لفهم وجهتها الحقيقية.
وهكذا أصبح العسر عسرين، فمن يصحو أولاً؟
التحالف شركاء وليسوا ولاة أمر أحد فالدماء التي تسيل دون طائل تستوجب استدعاء الضمائر الحية.. والعذابات التي يتجرعها الناس لا تحتمل التكتيكات وتسويفات المنعمين في وظائف المشاوير والكواليس الغامضة.
المملكة دولة مركزية لأسباب ومقومات عدة لكن ما تزال تعيش بداخلها أمراض مزمنة تجري مداواتها اقتصادياً واجتماعياً. وهذا الأمر بكل ما تعتريه من تعقيدات وما تحيط به من أسئلة يحتاج إلى وقت طويل حتى تتغير الوسائل وتُستبدل الأدوات بأخرى. وللقارئ حق التفكر حول أحداث مختلفة كشفت اختلالات تعود إلى إشكال هيكلي يتمثل في أن صياغة الأهداف والسياسات لم تخرج من حلبة الأجنحة داخل الدواوين والصالونات إلى مؤسسات “دولة عصرية”. تلك مشكلة تاريخية تعاني منها المملكة ولا يمتلك أحد حق التدخل إلا من زاوية الحرص والنقد.
لكن طالما وأن هناك دماء نازفة تسيل كل يوم وأرواح تتهالك على مذابح المبادرات والاتفاقات والمصفوفات فإنه يتعين المجاهرة بالنقد على الأقل… فأطول “عاصفة حزم وأمل” في التاريخ لم تحزم أمراً ولم تحقق أملاً ولم تصنع أفقاً حقيقياً ولم تنقذ شعباً من جوع وتؤمنه من خوف. وكل حروف الجزم تلك التي ازدحمت تؤكد بأن البلد ما يزال مفتوح على احتمالات مجهولة. خاصة وأن جُلّ ما تحقق من إنجازات تمثل في إعادة بناء “جيش وطني” يتبع تنظيم إخوان اليمن الذي يجهر بالموالاة لدول معادية “للتحالف” ويفتح لها أبواباً في مناطق سيطرته، ويخوض معارك إعلامية للتغطية على هزائمه الميدانية وازدواجية مواقفه. فمن هو المخدوع وما هي أدوات الخديعة؟.
الدفاع عن الشرعية وعن الأمن القومي العربي (وكل الحكايات المضروبة) أصبح لغز و حدوثة مثيرة للسخرية بعد أن آلت قوات “الشرعية” ذاتها إلى جيب الإنكشارية العثمانية بصورة علنية مثلما ذهب قبلها جيش “الجمهورية اليمنية” إلى “ثورية” أنصار الله التابعة لفيلق القدس.
إذاً حماية الأمن القومي، بعيداً عن التوظيف الإعلامي، هو من صلب مهام الدول العربية الكبرى التي تعرف تماما من هم في صف أعدائها باعتبارها الهدف النهائي لهم. وعليها أن تضع ثقلها في مقدمة الجبهات لتحقيق الأمن الداخلي والقومي.. لا أن تدير معاركها من خلال تحالفاتها المثيرة للجدل إلى حين ميسرة سياسية تمتلئ عندها صرة أهدافها من طرف واحد أو تصبح جاهزة لمقايضة ما في سوق التسويات الإقليمية ثم تترك الساحة للقوى المتصارعة ومصائرها المجهولة دون حسابات للشعوب التواقة لحريتها.
لقد قرف الناس من لعبة العميان هذه.. فهناك حاجة ماسة إلى التقييم والنقد والشفافية في التعامل مع دول التحالف..فلا يوجد أسوأ من الحروب شبه المنسية التي تتواكب مع ضبابية الأفق.. ولا يوجد أسوأ من أن يصبح فرع تنظيم الإخوان في اليمن المدعوم سعودياً يمتلك حق حصري لإدارة الهياكل العسكرية والاقتصادية والسياسية التابعة ل”الشرعية”.
الجنوب والشمال بحاجة إلى إنهاء الحرب وخلق مقدمات لإيجاد تسوية دائمة بمساعدة الإقليم والعالم انطلاقاً من حق كليهما في الإختيار، فالحالة الداخلية لا تحتمل مزيداً من الحروب التفصيلية وتعميق البؤس وانتشار القوى المتطرفة.