أعزائي شباب اليوم ..كم كنت وأنا من شباب الأمس في أواخر الخمسينات ومطلع الستينات أن أستعيد ذكريات شبابي الباكر كلما رأيت أو سمعت عن تصرفات شباب اليوم أو اندفاعه وحماسه وعبثه ووجده ومرحه..أنني دائماً أسأل نفسي..كيف كنت أتصرف أنا كجيل الأمس وأنا في سن شباب اليوم ..وعند ئذٍ أرجع إلى ذكرياتي وأحاول أستعيد إحساسي بكل شي ,كما كنت أحس به وهذا يجعلني لا أنتقد شباب هذا الجيل ,كما ينتقده من تخطوا مرحلة الشباب بوصفهم الشباب الضائع أو كما يطلقون عليهم شباب الشمة والحبوب ,شباب بدون أمل وبدون عقل أو شباب مادي إستهلاكي لكنهم لا يعممون هذه السلوكيات على جميع الشباب فلكل قاعدة إستثنى!!
إن عودتي بذاكرتي إلى أيام شباب الأمس يا شباب اليوم تجعلني أكثر فهما لحياة الشباب و دوافعهم واندفاعهم وحماقاتهم وأخطائهم وإستمتاعهم بحياتهم أكثر من فهمهم لواجباتهم ..إنني كلما راقبت شاباً في تصرفاته وكلما وضعتني الظروف لأحل مشكلة له أو أقوّم إعوجاجه أغوص بذاكرتي في أعماق ماضيي لأرى ماذا كنت أعمل أنا أيضاً وكيف كنت أسلك وأفكر وأنا في مثل عمر شباب اليوم وأتساءل هل كنت أفضل منه أو أكثر حكمة في تصرفي ومسلكي كشباب الأمس ؟هل وقعت أنا أيضاً في مثل هذا الخطأ أو مثل هذه الحماقة والتهور ؟ وهل كنت أرى وقتئذٍ إن هذا خطأ كما أراه الأن؟ عندئذٍ أحاول أن أعيد إلى رأسي عبثي ووجدِ ومرحي وآمالي ودنياي التي كنت أعيش فيها وفكرت عن الحياة والناس والعمل والوقت..كنت أفكر في شبابي لا أتعاطى القات والتدخين كنت أفكر بعقلي كثيراً ولكن قلبي هو الذي يقودني كثيراً نحو آمالي وتفكيري وعلاقاتي وأخذت أفكر في كل ما كان يسعدني وقتئذٍ, في حين البعض من شيوخ اليوم يصف هذا الجيل أنه جيل فاسد ملتوٍ يتنازل عن حقوقه ومبادئه بالفتات, شباب بدون إنتماء وبدون هوية لكن عندما أقارن وقتئذٍ حياة شباب اليوم بشباب الأمس أجد فارقاً مروعاً حيث حياة الشباب اليوم للأسف جافة جرداء خالية من أزهار الربيع أشبه بالصحراء المحرقة التي لا يجد المسافر فيها الأكل معاناة العطش والجوع وإرهاق ويُندر أن يجد شجرة يتفيأ إلى ظلها أما حياتنا نحن شباب الأمس فقد كانت واحة خصبة وارفة الظلال كل مافيها حي قابل للنمو, تزينها الزهور الزاهية المتعددة الأشكال والألوان وبها كل ما يمتع النظر ويحمل صاحبه على أجنحة ملائكية لا يعوقها شيء في التحليق إلى أبعد الآفاق!!
كنت أفكر في الزمن كما أفكر فيه الأن كان لي رصيدي الكبير منه وكنت أفكر في كل شيء وكأنني مخلد وما كان الموت يطرأ على فكري أبداً وما كان للوقت قياساً عندي ولذلك فأن كل ماكنت أعانيه من ضيق كان يتبدد سريعاً فقد كان أمامي الغد الجميل المشرق الذي لن يكون فيه مايضايقني وكان لا يشقيني وقتئذٍ أياً ماكنت أتوهمه من تسلط الوالدين وصرامة المدرسين وكان أملي أنه سيأتي اليوم الذي أفلت فيه من قبضة الوالدين والمدرسين وعندئذٍ تسير حياتي في بحر هادئ طيّع لإرادتي كنت أظن أن أبي وأمي يقفان حائلاً دون أن أستمتع بالحياة على طريقتي وأن المدرسين يحرمونني من الإستمتاع بوقتي ومرحي ولهوي, فكثيراً ما يكلفوننا بواجبات نؤديها و دروس نحفظها خارج المدرسة وكنا نتعرض للعقاب والتوبيخ على التقصير و التسكع في الشوارع أو السهر في المقاهي والأسواق وكنا نخاف إذا ما شاهدنا المدرس في الملاهي العامة وكانت الإمتحانات مصدر رعب وفزع لنا.
وكنا كلما فرغنا من الإمتحان في مادة أو مادتين نكوّم الكتب والدفاتر الخاصة بتلك المواد ونلقي بها على الأرض بعيداً عنا ثم نتنفس الصعداء ونلقي عليها نظرة راحة لأن الله سبحانه وتعالى قد أرحنا من جزء من جبل الكتب والدفاتر المرعبة التي علينا أن نستذكرها للإمتحان لكن كنا لا نغش ولا نغشش ولا نبرشم ولا نستخدم الجوال.
وكانت هذه كلها منغصاتنا نحن شباب الأمس ولا شيء غيرها وكنا نظن أنه ليس هنالك ما ينقصنا في الحياة كنا نشعر بالفرح وبالراحة وكنا نسعى في الحصول على المؤهل وعلى العمل الذي باعد بيننا وبين هذه المنغصات و كانت مقاييس القيم عندنا بكره نقية وشفافة ولم نكن قد تأثرنا بتجارب الحياة و خبرآتها و كانت الصداقة عندنا نحن الجيل القديم ممتعة قوية ومتينة وكنا نحن جيل الأمس أكثر ترابطاً وتماسكاً وتعاوناً ومحبة كنا نعيش في عالم القيم الطيبة والمثل العليا نتشارك الأعمال ونفضي بها إلى بعضنا البعض وكانت حالتنا النفسيه حلوة نتجمع لنمرح ونغني و نصفق و نناقش أغوص المسائل وكنا نظن أن بإمكاننا أن نصلح كثيراً من أمور الواقع, بما لنا من إيمان بقوة الفكر و قوة الروح وقوة العاطفة وصفاء النفس وشفافيتها وكنا دائماً نرفع أصواتنا إنتصاراً للحق والعدل والمحبة ,لم يكن لنا من المصالح الخاصة ما يجعلنا عاجزين أن نستهين بكل ما يعترض طريقنا من الصخور والسدود وكان لنا من الحماس والحيوية والاندفاع قوة دافعة جبارة..كما كنا نرى في كبار السن إستهانة بالقيم الطيبة التي تشدنا, وكان إيماننا بهم كقادة لا يتزعزع ,كنا نرى فيهم تأخر وتخلف ولكننا كنا نحترمهم لكبر سنهم لأن التربية والتقاليد كانت تتطلب مننا التقدير لهم.
وكانت القراءة هي النافذة الوحيدة التي نطل منها على عالم الثقافة الغزيرة الدسمة و كانت قراءتنا واعية وعونا لنا على النضج والتنقيح ولم نكن نقرأ للتسلية بل للهضم كنا نقرأ لنفكر ونعمل, على عكس شباب هذا الجيل الذي لا يسمع ولا يقرأ.. بل كنا نستعين بالقراءة على تكوين مُثلنا العليا .
و كنا ننتقد في ما بيننا السياسة والتقاليد بجرأة مذهلة في لقاءاتنا ومناقشاتنا وكنا نرفض أي قيود على الحرية وكنا نظن أن المسؤولية هي التي تقيدنا عن المتعة وأننا كلنا نرى في إرشادات وتوجيهات والدينا و مدرسينا بحسب إعتقادنا الخاطئ إضطهاداً وتعسفاً وكنا نعتقد أنه من يدفعنا إلى تحمل المسؤولية لا تنبع من داخلنا كمن يريد أن يربط حبلاً غليظاً حول أعناقنا يشنقنا به وكنا نردد دائماً ونحن في المدرسة المتوسطة, بيت أبو الطيب المتنبي القائل(عش عزيزاً أو مت وأنت كريمٌ...بين طعن القناة وخفق البنودِ),كلنا لا نقبل الظلم كجيل اليوم كنا دائماً في صفوف المظلوم و كنا نحسب الظلم الذي يقع على غيرنا كأنه قد وقع علينا وكنا لا نقيس الحياة بالمادة أو الأغراض المادية بدلاً عن القيم والمثل الطيبة و العدل..وهذا هو سر نجاح شباب الأمس في الجنوب ضد الإستعمار البريطاني وظلمه أنذاك, كنا نحن في شبابنا المبكر جيل الأمس نرسم أحلامنا وهي أحلام واقعية تستوعب طموحنا الواقعي وظروفنا المادية ظروف الأسرة و إمكانياتها ولا نقول إنها أحلام بأشياء لابد أن تتحقق كما نظن أنه بإمكاننا أن تتحقق لكن كل ما كنا نفكر فيه وكلنا أمل بأن هناك حواجز وقيود يمكن أن تعترض طريقنا وإن كانت آمالنا واسعة وعريضة لكن كنا ندرك إنها لن تتحقق فوضعنا مخططاً متواضعاً لحياتنا وقلنا هذا هو مستقبلنا وسيتحقق بأذن الله عز وجل وكنا لانطمح سوى العيش في مخزن ودارة وحمام ومطبخ وأحيان يحكم علينا الواقع وظروف الأسرة فنسكن مع والدينا وأسرنا وأحياناً يكون الحاجز بين الوالد والأم في منزل العائلة الستارة أوالطراحة نأكل معاً في صحن واحد وأطفالنا يلعبون ويمرحون تحت سقف المنزل الواحد وكنا أحياناً و نحن شباب خصوصاً في الأسرة المركبة كثيرة الأفراد نذاكر دروسنا ونحل أعمال الواجب على ضوء الفانوس أو على ذُبالة المسرج..ومع ذلك نجحنا بتفوق وأحياناً بنبوغ وكنا نسرق وقت راحة الأسرة المركبة لقراءة الكتب والمجلات لتثقيف أنفسنا ولم نقف عند هذا الحد بل حددنا العمل الذي سنقوم به وأحسنا الظن بأنفسنا و قوانا العقلية وعبقريتنا التي سننجز بها هذا العمل العظيم بل كنا نحصل على الوظيفة وفقاً للقانون والأولويات والحاجات الضرورية بدون وساطة.
أما أنتم شباب اليوم كنتم دائماً ترون بعين خيال الشهرة لم يكتفوا بأن تضعوا مخططاً عاماً لحياتكم بل أنكم وضعتم التفاصيل الدقيقة و رسمتم لانفسكم البيت الذي ستعيشون فيه غرفه وعددها وسعتها والوان الجدران والستائر والأثاث حديقة المنزل وأنواع زهورها والوانها ورسمتم صوراً لشريكات حياتكم وما يجب عليهن من جمال جسماني وروحي وثقافة عالية و هوايات متعددة وفكرتم حتى في عدد الأطفال الذي سترزقون بهم وكيف ستكون تربيتهم و رسمتم كل شي في حياتكم بأدق التفاصيل لكن سرعان ما تبخر عندما صدمتم بأنكم كنتم تعيشون في أحلام اليقظة دون دراسة واقعية وقست حياتكم بشطحات الخيال والأحلام الرومانسية الإستهلاكية.
كم هو جميل عالم شباب الأمس كان وطنياً ومنتمياً للوطن وهويته بإمتياز وكم هي جميلة أفكاره الثورية والوطنية وأحلامه وقوته وإندفاعه للتغيير والتقدم محدد وسيلة نضاله عبر النضال البرلماني أو الكفاح المسلح تقوده جبهة أو فصيل ثوري له برنامجه النضالي المرحلي التكتيكي والإستراتيجي ,كان له فكراً ايديولوجياً وطنياً وقوميا عربياً أو إشتراكياً أو إسلاميا لم تكن وسيلتنا في النضال الفيس بوك ووسائل التواصل الإجتماعي كما هي وسيلة ثورة الربيع العربي أو العبري إذا ما جاز التعبير وهي ثورات لم تينع ثمارها حتى اليوم بل مهدت للأسف لنظام الشرق الأوسط الجديد مشروع إستعمار العصر القادم.
أنكم يا شباب اليوم بحاجة الى توخي قيم جيل الأمس الطيبة ولا تعدلوها بمقتضى الغزو الثقافي الإستهلاكي الخارجي ..عليكم أن تحتفظوا بقيم جيل الخبرة والفراسة بما كان لهم من نقاء القلب وصفاء الروح ..أحذوا حذوهم للتغيير والتقدم ومعاداة الجمود, عليكم حماية أنفسكم من مستنقع المخدرات والحشيش والشمة والإبتعاد عن الرذائل حتى لا تنزلقوا في الآفات الاجتماعية المؤلمة و تصبحون مجرمون..عليكم الإهتمام بالعلم والمعرفة والثقافة فهي خط الدفاع الأول لحماية الشباب والمجتمع برمته (اللهم إني بلغت اللهم فاشهد!!)