تكتنف المشهد السياسي في الإقليم مجموعة من التمظهرات التي تنشر من الغموض أكثر مما تكشف من الحقائق، مما يخلق حالة من البلبلة والإحباط لدى طيفٍ واسعٍ من الطبقة السياسية والأكاديمية المنشغلة بالأزمة اليمنية، بثنائياتها المتعددة (شرعية-انقلاب، جنوب-شمال، عسكري-مدني، وحدة-انفصال، سلام-حرب، داخل-خارج) وغيرها من الثنائيات التي لا يمكن معالجة إحداها بمعزل عن البقية.
يتعذر التعرض لكل هذه المعادلة المركبة ذات المجاهيل المتعددة في عجالة كهذه، لكن العنصر الرئيسي الذي لا يمكن تجاهله في كل هذا النسيج المعقد من القضايا هو عنصر الأحقية والمشروعية، أو لنقل ثنائية المشروعية واللامشروعية، ورديفها الضروري، وهو الأهلية وعدم الأهلية، لأن غياب المشروعية حتى وإن حضرت الأهلية، والمقصود بها قدرة الطرف السياسي المعبر عن تلك (اللا مشروعية) على المحاججة واستدعاء المعطيات وتصنيع الشواهد والمؤيدات، تجعل صاحب هذه الأهلية كالمحامي المحتال، (شديد الذكاء)، الذي يبرئ القاتل حتى بعد إقراره بارتكابه جريمة القتل، كما إن المشروعية بدون أهلية تحول القضية العادلة إلى مسخ مشوه يعبث به المحتالون والنصابون ولصوص التاريخ، أو كما يقول الحقوقيون "إن القضية العادلة يخسرها المحامي الفاشل".
خسرت "الشرعية" معركتها مع الجماعة الحوثية، ليس بسبب أحقية الجماعة وعدالة مشروعها، بل بسبب سوء أداء من يمثلون هذه الشرعية، وانصرافهم عن الإهداف الأساسية لمعركة الشعب ضد المشروع الإيراني التوسعي، إلى الاستثمار في الحرب والإثراء من خلالها، هذه الشرعية التي أفشلت بإصرار وتعمد، معركة تحرير الحديدة، وتخلت عن فرضة نهم (كنقطة تفوق استراتيجية) ومعها محافظات مأرب والجوف والبيضا، كي تحتل مقابل كل هذا محافظة شبوة، وتعيد جماعات القاعدة وداعش إليها نكاية بالجنوبيين الذين هزموا لها الجماعة الانقلابية في معركة لم تستغرق أكثر من مائة يوم وهزموا القاعدة وداعش خلال فترة قياسية وهو ما لم يفعله "الشرعيون" على مدى عقود من الاستثمار في "محاربة الإرهاب" .
إنه المحامي الفاشل الذي يتبنى قضية عادلة فلا يجيد الانتصار لها أو يتعمد الفشل في الدفاع عنها ثم يبحث عن قضية باطلة محاولا تسجيل انتصارات وهمية فيها.
في ظل هذه البيئة السياسية المعقدة والملتبسة تتصاعد التساؤلات عما خلف المشهد السياسي الملتبس وتغيب الإجابات أو تتضاءل ويعلو صوت التسريبات لتشكل مسكنا وهميا لآلام ومعانات الناس الذين تطحنهم الحروب (الشرعية): حرب الخدمات، وحرب التجويع ونهب المرتبات ، وحرب التغييب المتعمد لأجهزة الدولة، إمعانا في تعذيب الناس ومضاعفة معاناتهم وتعطيل مصالحهم.
المواطن العادي وحتى المهتم بالشأن السياسي لم يعد يكترث كثيرا لخلفيات هذا المشهد السريالي العبثي، فلا لديه الوقت لهذا النوع من الترف الذهني، ولا يجد نفسه معنيا بثنائية الحق والباطل، والجاني والمجني عليه، وحتى لو قلت له بأن المذنب في ما يعانيه هو من يستحوذ على الموارد ويحولها إلى دولار ثم يبعثها إلى الخارج للإنفاق على الطفيليين المدعويين بــ"الوزراء والمدراء والوكلاء والسفراء والمستشارين والنواب والشورويين" وعددهم بالآلاف ليستكملوا تسديد ثمن العقارات التي اشتروها في أرقى المدن، وهم الذين يمضون سنوات بكاملها لم يقابلوا مواطناً واحداً ولم يشخطوا ورقةَ معاملةٍ واحدة، لو قلت له كل هذا سيقول لك أنا لا يعنيني ما تقول ولا يهمني صراع السياسيين، فإنا مشغول بالبحث عن قرص رغيف ولتر ماء نضيف وعشرة لتر ديزل مساهمة في تشغيل ماطور الجيران لآخذ كهرباء الإضاءة من عنده.
الحكومة المهاجرة وأحزابها ومكوناتها تعاطت محلول قلة الخجل وانتزاع فضلية الشعور بالمسؤولية منذ سنوات وأحسن قائد فيهم يمكن أن يعبر لك عن تفهم ما تقول ثم ينسى بمجرد انصرافك من أمامه، . . . إنهم ينتظرون اللحظة التي يسقط فيها المواطن الجنوبي بالنقاط بعد أن فشلوا في إسقاطه بالضربة القاضية.
وختاماً سؤال للأشقاء رعاة اتفاق الرياض:
هل جاء الاتفاق لقتل المواطن الجنوبي من خلال نهب مرتبات الموظفين وقطع الخدمات الضرورية لحياة المخلوقات الحية من بشر وحيوانات ونباتات، ثم تجييش ملايين النازحين المترفين ليخنقوا هذا المواطن بزحمة المواصلات بسياراتهم الفارهة ومصروفاتهم الباذخة واحتلالهم كل فنادق الخمسة نجوم؟
هل ما يزال اتفاق الرياض يهمكم أم إنكم تنتظرون بيان نعيه لتحَمِّلوا المسؤولية من يتلو البيان وليس من تهرب من التنفيذ؟
لقد مات اتفاق الرياض وتعلمون أسماء الذين حقنوه بالجرعة القاتلة عندما سلموا المعسكرات والأسلحة للحوثي ومنعوا قواتهم من الدفاع عن الجوف ومأرب والبيضاء ونهم دون أن تسألوهم كيف حصل هذا ولماذا؟ لكن كل من يتابع المشهد يتعجب من الدلال الذي يحظى به هؤلاء لديكم ويتساءل: لماذا لا تجبرونهم على تنفيذ ما يخصهم من الاتفاق الذي صغتموه ورعيتم التوقيع عليه، فيسحبوا قواتهم التي نص الاتفاق على سحبها لمواجهة الحوثي مقابل كل هذا الدلال والرعاية الفائقة التي يحصلون عليها من قبلكم؟
فشل اتفاق الريا ض ليس فشلا للموقعين عليه، بل هو أكثر من هذا فشلٌ لرعاته ومعديه والمشرفين على التنفيذ، وهذه بديهة يعلمها كل ذي عينين.
إن الشعب في الجنوب ينتظر إجابتكم على هذا التساؤل ليقيس على هذه الإجابة مدى جديتكم في حلحلة الأزمة والذهاب بمشروعكم إلى النهاية أو العكس.