عندما تزور مدينة بعد غياب عشر سنوات، وعندما تكون تلك المدينة هي أول مكان عرفت فيه معنى الثقافة والمعرفة والتعليم وحتى ركوب السيارة والحافلة وزيارة محطة الإذاعة والتلفزيون والصعود على عبارة بحرية والتعرف على مصفاة تكرير النفط، وأول مدينة دخلت فيها دار سينما وشاهدت فيها أول فيلم سينمائي وتعرفت فيها على أول حفل غنائي لفنانين مشهوري وطنيا وعربياً، وأول مدينة شاهدت فيها مباراة لكرة القدم في دوري وطني لأندية الدرجة الممتازة، وعندما تكون هذه المدينة تعرضت لحرب ضروس ما تزال بقاياها متواصلة حتى اللحظة، وما تزال آثارها ترسم نفسها على ملامح وأجساد الناس وسلوك بعضهم، عندما تكون تلك المدينة بهذه الأعراض فلا شك أن الصورة المسبقة التي ترتسم في مخيلتك تكتنفها مجموعة من الافتراضات المتصادمة والتوقعات المتناقضة والتنبؤات المتعارضة، وذلك بالضبط ما حصل مع كاتب هذه السطور في الزيارة الأخيرة لعدن عاصمة الجنوب، ومهبط وحي المحبين ومنار عشاق الوئام والسلام والتعايش والتسامح على مدى قرون طويلة.
كنت في منشور سابق قد أشرت إلى الحديث الذي دار بيني وبين الزميل المهندس نزار هيثم الذي كان في استقبالي بمطار عدن ومعه صهري السياب محمد علي، أثناء خروجنا من المطار باتجاه خور مكسر فالمعلا وحجيف حتى مقر إقامتي، حينما قال لي (المهندس نزار) بصيغة المتسائل: هل ترى كم تغيرت عدن؟ والتساؤل كان المقصود به التأكد من أنني مصدوم مما لحق بعدن من الأضرار والخرائب التي لا تخطئها عين، لكنني مثلما قلت في المنشور السابق، أكدت له أن عدن هي أجمل وأنقى وأفضل مما توقعته وأنا أدرك ما تعرضت له منذ ست سنوات خلت وما لا تزال تعانيه من سياسات الحصار والتجويع وحرب الخدمات والعبث بأمن الناس وحياتهم ومصالحهم.
وقد حرصت في زيارتي هذه الممتدة 54 يوما بالوفاء والتمام على رصد بعض الملاحظات والمشاهدات والانطباعات ما أمكنني ذلك، ورغم امتلاء الوقت بالانشغالات والمجاملات والزيارات مني وإليَّ، لكنني دونت بعضاً من هذه الانطباعات وعجزت عن تدوين كل شي لكنني أستحضر بعض هذه المشاهد من الذاكرة فمن يقيم في عدن لا يمكن أن ينسى لحظة من لحظاتها المؤثرة وكل لحظات عدن شديدة التأثير.
سأحاول خلال مجموعة من المنشورات نشر البعض من تلك اللحظات المؤثرة سواء تلك التي لها قيمة سياسية ووطنية وتاريخية، أو تلك ذات البعد الإنساني والأخلاقي أو حتى الشخصي بالنسبة لي أو للأشخاص المعنيين بهذه الانطباعات والمشاهد.
وسأتناول هذه الانطباعات بصورة غير مرتبة ترتيباً زمنياً، ولكن وفقاً لما استطعت إعداده منها.
وفي المنشور القادم سأتوقف عند زيارتنا (أنا ومن معي) للمناضل التاريخي والفدائي الأوكتوبري العم صالح فاضل الصلاحي، أطال الله في عمره.