أحدث القرار المتخذ بتغيير مجلس إدارة البنك المركزي في عدن واستبدال المحافظ ونائبه بمحافظ ونائب جديدين، أحدث ردات فعل إيجابية لدى معظم المتابعين للشأن السياسي والاقتصادي في البلد، تمثل في حملة الاستحسان التي قوبل بها قرار رئيس الجمهورية، وانعكس ذلك في تحسنٍ ملحوظٍ لبعض الأيام في قيمة الريال اليمني أمام العملات الأجنبية وأهمها الدولار الأمريكي والريال السعودي، وبقية العملات الخليجية الأكثر تداولا في السوق المحلية.
يومها كنت قد كتبت أن التحسن الطفيف الذي جرى صبيحة إصدار قرار تعيين المحافظ ونائبه والمجلس الجديد تكمن وراءه أسبابٌ نفسيةٌ لا ترتبط بالعوامل والأسباب الاقتصادية.
يقتصر دور المحافظ ونائبه والمجلس الجديد على السياسات التي سيتبعانها، ودورهما في المشاركة في محاربة الفساد وابتكار حلول إيجابية وإبداعية في التغلب على الأزمة المالية والاقتصادية، لكن لا المحافظ ولا نائبه ولا مجلس الإدارة الجديد يستطيعون إيقاف التدهور المريع لقيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية، ما لم يتكئوا على عمليات وسياسات اقتصادية ومالية تكاملية تشمل مجموع العوامل والمؤثرات التي تتوقف عليها الحياة الاقتصادية في البلد.
ومن غير شك أن لدى الاقتصاديين والمتخصصين في الأمور المصرفية والمالية والنقدية العديد من المقترحات التفصيلية بشأن وظائف البنك المركزي والتحديات التي تنتصب أمام المجلس الإداري والمحافظ والنائب الجديدين في ظل الأزمة الخانقة التي تمر بها البلاد، لكن أي مبتدئ في التعرف على السياسات الاقتصادية يدرك أن أهم شرط من شروط تحسين قيمة العملة المحلية هو تحسين موارد العملة الأجنبية من خلال تعزيز الصادرات من المنتجات المحلية التي تباع بالعملات الصعبة وهذه تشمل طائفة واسعة من الموارد، أهمها بالنسبة لبلادنا الصادرات النفطية والسمكية والزراعية وتنشيط السياحة إلى جانب الضرائب والجمارك التي تحصل بالعملات الأجنبية عبر نقاط الحدود والموانئ والمطارات، ومعظم هذه الموارد للأسف الشديد إما معطلة بفعل الحرب أو إنها تخضع لجماعات النفوذ السياسي التي تعمل خارج إطار منظومة الدولة ولديها من النفوذ والسلطة أكثر مما لأجهزة الدولة (المفترضة) وبهذا النفوذ تقتات كالطفيليات على معيشة الشعب وثرواته وموارده المالية.
وثاني هذه الشروط هو التقليص من الإنفاق بالعملة الصعبة ومن النفقات غير الضرورية عموما إلى أقصى الحدود، وتأتي سياسة مكافحة الفساد في قلب هذه السياسة، علما بأن الفساد شبكات واسعة من الممارسات والعلاقات والمصالح والتصرفات التي من الصعب متابعتها والكشف عن خفاياها إلا من خلال تفعيل أجهزة الرقابة والمحاسبة وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب، وهذا الأمر يطول الحديث فيه ويتشعب.
وكما يعلم الجميع فإن عشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين، من الوزراء والمستشارين والنواب والوكلاء والسفراء وأعضاء مجلسي النواب والشورى والقناصلة ومدراء العموم ورؤساء الأقسام وبعض الموظفين في الوزارات والدوائر الحكومية (ومعظم هذه المسميات وهمية) والغالبية من الأسماء الحقيقية تعيش في الخارج، كل المنتميين إلى هذا الجيش الجرار يتقاضون مرتباتهم إما بعشرات الآلاف من الدولارات (بالنسبة للمناصب العليا) أو بآلاف الدولارات أو عشرات آلاف الريالات السعودية، وكلها من الموارد الضئيلة للبلد التي لم تعد السلطات الشرعية تسيطر إلا على الجزء اليسير منها.
إن هذه الوضعية المهترئة تضع أمام قيادة البنك المركزي وعلى رأسها الأخوين أحمد غالب محافظ البنك ود. محمد عمر با ناجه نائب المحافظ تحديات كبيرة لا بد من الاضطلاع بها ويتحتم على الجميع مساعدتهما في التصدي لها.
ولا يسعني هنا إلا التأكيد مرة أخرى على أن محافظ البنك ونائبه وكل أعضاء مجلس الإدارة لا يمتلكون مطبعة لإصدار الدولارات حتى يعززوا من قيمة العملة المحلية، ومن هنا فلا يمكنهما تحقيق أية نجاحات إلا باتخاذ حزمة من الإجراءات المركزية من قبل السلطة الحاكمة، (حتى وإن كانت مصممة على البقاء في الخارج) وأهم هذه الإجراءات:
ا. إيقاف صرف المرتبات بالعملة الصعبة لأي موظف من الموظفين الصغار والكبار سواء بالدولار أو بالريال السعودي، والاكتفاء بدفع رواتب جميع الموظفين الحكوميين صغارا كانوا أو كبارا في الداخل كانوا أم في الخارج بالعملة المحلية.
ب. تقليص أعداد المبعوثين الدبلوماسيين في سفارات وممثليات اليمن لدى الخارج ولدى المنظمات الإقليمية والدولية ممن يتقاضون مستحقاتهم المالية بالعملة الصعبة إلى أقصى الحدود، مع تخفيض مرتبات من تبقى منهم إلى الحد الأدني وتحويل الوفور من هذا الإجراء من العملة الصعبة لتعزيز قدرات البنك المركزي على تحسين قيمة العملة المحلية وعقلنة عملية الإنفاق بما يلبي الحاجات التموينية والخدمية الضرورية لتلبية حاجات المجتمع.
ج. إجبار جميع الموظفين والمسؤولين المقيمين في الخارج على العودة إلى البلد والتكيف مع حياة المواطنين الذين هم الأبطال الحقيقيين في مواجهة أزمات البلد مع اتخاذ الإجراءات العقابية ضد من لم يمتثل لقرار العودة إلى البلد، إذ لا يمكن أن يبقى آلاف الموظفين الحكوميين مهاجرين يتقاضون مرتباتهم بالعملة الصعبة دون أن يقدموا شيئاً يذكر لقاء تلك الأموال الطائلة التي يأخذونها على حساب قوت المواطنين وخدماتهم واحتياجاتهم الضرورية.
هذه الإجراءات ليست سوى جزءٍ من حزمة واسعة من الخطوات التي يجب أن يتفق عليها الجميع لمساعدة الإدارة الجديدة للبنك المركزي على الاضطلاع بوظائفها وإنقاذ الريال المحلي من الضمور والتلاشي والانهيار وبالتالي خلق حالة من الانتعاش الاقتصادي الذي يضمن قدراً ولو يسيرا من الاستقرار المعيشي للسواد الأعظم من السكان.