منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اعتادت الشعوب على أن تشاهد استعراضات للجيوش في طوابير وصفوف منتظمة أحياءً للمناسبات الوطنية فهذه عادة مكررة حتى قرر الرئيس الروسي فلاديمر بوتن تغيير قواعد اللعبة الدولية التي فرضتها الولايات المتحدة منذ سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989 معلناً سقوط الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة وإعلان أحادية القطب الأميركي الذي فرض سطوته السياسية على العالم.
مصطلح "اللعب على حافة الهاوية" مصطلح ظهر في عهد الرئيس الأميركي الأسبق أيزنهاور 1953، بالتزامن مع نضوج صراعات النفوذ في العلاقات الدولية، ومع بدايات الحرب الباردة والعداء الأميركي المتأصّل للتجربة السوفيتية ومحاصرتها، في أزمات كبرى استخدم المصطلح كأزمة خليج الخنازير التي وضعت القوتين الأكبر في احتمالات مواجهة عسكرية شاملة الا الطرفين، روسيا وحلف الناتو، كانوا يمارسون لعبة "حافة الهاوية" مع الطرف الآخر، فكان كلاهما يقوم بأعمال تصعيد لأقصى مدى ممكن للحصول على أفضل مخارج تحقق مصالحه وتحتفظ بهيبته الأمنية والسياسية، وتضمن له مكانة في عالم جديد يتشكل بعد جائحة كورونا.
أظهر الرئيس بوتن قدراً هائلاً من رباطة الجأش وهو يستعرض القوات الروسية واضعاً أصبعه على زر إطلاق الحرب العالمية الثالثة بينما كان يسجل مزيداً وكثيراً من الأهداف السياسية في مرمى الولايات المتحدة والناتو، لم تكن المسألة استعراضاً للقوة بل إعلاناً على النفوذ الروسي ونهاية لعصر القطب الواحد، صراع النفوذ في العهدة الجديدة من القرن الحادي والعشرين.
حركت موسكو جيوشها ووضعت أصبعها على الزناد وفي المقابل لم تجد واشنطن ومعها حليفتها الأهم بريطانيا لترد على التهديدات الروسية إلا بالتلويح بورقة العقوبات الاقتصادية رغماً عن إدراك واشنطن وحلف الناتو أن الروس قادرون على غزو اوكرانيا وفرض واقع سياسي على غرار ما حصل في القرم، تعلم الولايات المتحدة أن سياسة (القضم) ممكنة وابتلاع أوكرانيا ممكن ولكن ليس ببيد واشنطن حيلة.
الانسحاب الأميركي المرتبك من أفغانستان تابعه الرئيس الروسي بوتن كما لم يتابع مشهداً آخر في حياته فلقد طوت تلك المشاهد تذكير العالم بهزيمة السوفييت في أفغانستان وخروجهم منها، كانت مشاهد عالقة بالذاكرة حتى ظهرت المشاهد الأكثر منها تجسيداً لمعنى خيبة الأمل السياسية والفشل العسكري في التاريخ فبعد عشرين عاماً تخرج القوات الأميركية مرتبكة ومبعثرة في مشهد حفز الروس لاستعراض قوتهم العسكرية على خط التماس مع حلف الناتو العدو اللدود تاريخياً.
ثمة شعور حول العالم أن هناك تراجع في قوة اتخاذ القرار السياسي في البيت الأبيض وتحديداً مع سيطرة الحزب الديمقراطي فالخطوط الحمراء التي رسمها الرئيس الأسبق باراك أوباما لكوريا الشمالية وروسيا وسوريا كلها تم تجاوزها بدون ردة فعل أميركية معتبرة، التردد الأميركي جزء من معادلة الحرب التي بموجبها حرك الرئيس الروسي البيدق على طاولة شطرنج مفتوحة يتابعها المشاهدين وكأنها نزال على حلبة ملاكمة.
أوكرانيا لم تكن سوى حافة الهاوية بالنسبة للرئيس بوتن الذي أجاد اختبار أعصاب العالم وقرأ في عيون خصومه الخوف والرهبة والأهم الارتباك من تلك الحشود العسكرية واسلحة جيل الذكاء الاصطناعي، كما أن الرئيس الروسي أظهر للعالم أن الصين هي الحليف الذي قد يسند الروس عند العودة لحرب باردة أو ساخنة فالحقيقة أن فبراير 2022 سجل نقطة تحول في العلاقات الدولية وعالم القطب الأوحد يوشك أو يكاد أن ينتهي ويظهر عالم مختلف قد يكون من قطبين أو متعدد الأقطاب، وسيكتب التاريخ أن بوتن أعاد القياصرة للعالم فلقد بعثوا من قبورهم وشاهدوا روسيا متجددة وقوية للغاية.