المصريون خرجوا من بعد العدوان الثلاثي أكبر عزماً على دعم حركات التحرر الوطنية العربية وفيما كانت النجاحات تتحقق توالياً كان المتغير التاريخي يحدث في جلاء الاستعمار البريطاني من مدينة عدن فما حدث بتاريخ 30 نوفمبر 1967 كان أوسع من مجرد جلاء آخر جندي بريطاني من درة التاج البريطاني عدن.
فلقد كانت بالنسبة للأمن القومي العربي أن تشكيلاً عروبياً ممتداً عبر الممرات الملاحية المائية في تتويج للمدّ القومي العربي.
كانت لمايلز كوبلاند مؤلف كتاب "لعبة الأمم"، فكرة شهيرة لم يبتلعها أحد في العالم العربي أبدا، وهي أن أهمية "العروبة"، تأتي من كونها أسطورة وليست حقيقة، برغم أن هذا السياق كان حاضراً بينما كانت حركات التحرر الوطني العربية تحصل على دفعة هائلة رسخت العمق القومي، استقلال جنوب اليمن ساهم بقوة في تسريع الجلاء البريطاني والفرنسي عن المنطقة فغابت الإمبراطوريات وتوسعت القومية العربية.
صراعات متعددة كانت في هذه المنطقة تطلع إسرائيل لحلمها في التوسع وتشكيل دولتها الكبرى بالإضافة لوجودها على أرض فلسطين وما أعقب العام 1948 من تهجير واستيطان، كما أن صراعاً سياسياً كان لا يكاد يتوقف بين الملكيين والجمهوريين، هذه الصراعات هي تدافعات في سياق ما كان مفترضاً بلوغه بانعدام الكوابح للمدّ الناصري الذي طغى على ما سواه فكان من الطبيعي حدوث تداخلات فكرية وسياسية عززت في واقعها من الأمن القومي العربي وحددت مفهوم الأمن الوطني كذلك.
كانت الوحدة المصرية السورية (الجمهورية العربية المتحدة) تمثل التطلع المأمول للشعوب العربية التي تابعت خيبة فشل التجربة تحت وقع الواقعية السياسية التي كانت تشغل مصر والسعودية في حرب اليمن، غياب التوافق أحدث فشل سياسي لكنه لم يكسر الإرادة التحررية التي تحققت باستكمال جلاء الاستعمار الأجنبي وابتداء مرحلة سياسية تعايشت مع الاستقطابات الدولية بين المعسكرين الشرقي والغربي.
ما كان مخفياً هو الذي سيلعب الدور في تهديد الأمن العربي فلقد كانت مصر ومنذ مطلع القرن العشرين تعيش صراعاً مركباً مع جماعة الإخوان وهذا الصراع يلخص مفهوم الدولة الوطنية بمححدات التكوين، حرب اليمن استنزفت القوات المصرية حتى وقعت حرب النكسة في العام 1967 وأعادت العرب لقمة اللاءات الثلاثة في العاصمة السودانية الخرطوم والتي أعادة ضمنياً تعريف الأمن القومي العربي بواحدية العمق المصري وما يمثله من ثقل سياسي.
حرب الاستنزاف العربية منحت للقيادة المصرية فرصة لتجدد قيادتها القومية فعادت لتوسع من تأثيرها في تأصيل أهداف الناصرية كرافعة من الروافع التي لاقت قبولاً وجدانياً من خلاله استكملت الثورات العربية تحقيق استقلالها الوطني، بواقعية تلك المرحلة من التاريخ السياسي فلقد أنجز التحرر من المستعمر الأجنبي ومع حرب الاستنزاف أظهرت الدول حديثة الاستقلال في الخليج العربي قدرة على دعم الجبهة المصرية والسورية بالإضافة إلى أنها خاضت مع شاه إيران معركة وجودية انتهت بانتصار للكيانات العربية على ضفة الخليج.
الحقبة الناصرية وإن انتهت بوفاة الرئيس جمال عبدالناصر إلا أنها بقيت وستبقى هي النواة الصلبة لتعريف الأمن القومي العربي في سياقات السلام والحرب، وبعد أن استكمل الرئيس أنور السادات حرب الاستنزاف أطلق حرب العبور (أكتوبر 1973)، ما زرعه العرب في عقود مصت حصدوه في حرب العاشر من رمضان فقد نجحت القوات المصرية من عبور القناة واستعادة سوريا ولبنان والأردن على الأقل معادلة توازن الردع مع اسرائيل، فيما كان التكامل العربي تحقق كانت الدول الوطنية تعاني من تفشي للأفكار المتطرفة في مجتماعاتها.