الجزء الثالث التفاهة ليست مرضاً جديداً، بل هي أشبه بفيروس ينشط كلما انخفضت مناعة المجتمعات الثقافية. المشكلة ليست في وجودها فهي مثل البعوض، مزعجة لكنها جزء من النظام البيئي ولكن المأساة الحقيقية تكمن في تحول التفاهة إلى زعيم عصابة، تتصدر المشهد وتفرض قواعدها على الجميع. في وطننا العربي، لم تكتفِ التفاهة بأن تعيش وتدع غيرها يعيش، بل قررت أن تقيم حفلاً راقصاً على رؤوسنا، مدعية أنها تقدم فنّاً ورسالة للعالم. في الدول المتقدمة، صحيح أن البعض يرقص أمام الكاميرا، لكنهم يستخدمونها أيضاً لتقديم محتوى يفتح آفاقاً جديدة: أحدهم يشرح نظرية معقدة بطريقة سهلة، وآخر يحوّل الفيزياء إلى لعبة ممتعة. أما عندنا، فتُستخدم الكاميرا غالباً لتوثيق مغامرة أحدهم وهو يحاول أن يأكل خروفاً كاملاً في دقائق معدودة، تحت شعار الإبداع العربي لا حدود له!. الإحصائيات تُضحك وتُبكي في الوقت ذاته. دراسة أجرتها منصة “Statista” عام 2023 تشير إلى أن 60% من مستخدمي الإنترنت في العالم العربي يقضون وقتهم على مقاطع ترفيهية سطحية. نعم، 60% من وقتنا يُهدر على أشياء مثل “أقوى تحدي للاندومي الحار!”، بينما في الدول المتقدمة، 48% من المستخدمين يقضون وقتهم في تعلم شيء جديد. الفارق هنا يشبه الفرق بين شخص يستخدم النار لطهي وجبة دافئة وآخر يستخدمها لحرق بيته. لكن ما يجعل التفاهة خطراً حقيقياً هو قدرتها على التحول إلى ثقافة عامة. فهي لا تتوقف عند حدود الترفيه، بل تبدأ في التسلل إلى عمق المجتمع: في التعليم، في العمل، وحتى في السياسة. عندما تصبح التفاهة هي المعيار، تصبح السطحية رمز النجاح، ويُدفن العمق تحت أكوام من التحديات السخيفة والمشاهد المكررة. التفاهة لا تكتفي بإضاعة وقتنا فحسب، بل تُعيد تشكيل أولوياتنا، وتجعل النجاح مرادفاً للصخب، والتفكير النقدي مجرد رفاهية. والمشكلة الأكبر أن التفاهة تقتل الطموح. جيل كامل من الشباب بات يرى في الشهرة السريعة هدفاً أسمى. بدلاً من أن يحلموا بابتكار شيء يغير العالم، يحلمون بجمع ملايين المتابعين عن طريق قفزة استعراضية أو رقصة غريبة. دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022 وجدت أن تأثير السطحية على الدول النامية يعادل تقريباً تدمير بنية المجتمع الإبداعية. إنها أشبه بموجة تسونامي تغسل كل ما هو جميل، وتترك خلفها فراغاً ثقافياً وأخلاقياً. الأدهى من ذلك أن التفاهة تجعلنا نقبلها في كل شيء. إذا اعتدنا مشاهدة المحتوى التافه، فلن نتوقع سوى القرارات التافهة، والنقاشات التافهة، وحتى الطموحات التافهة. تصبح التفاهة كالنمل الأبيض، تنخر في هيكل المجتمع دون أن نلاحظ حتى ينهار فجأة. ولا تظن أنني أبالغ. تذكر حين كان الأطفال يحلمون بأن يصبحوا أطباء أو مهندسين يبنون المستقبل؟ اليوم، السؤال تغير: “ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟” والجواب بكل ثقة: “مشهور على تيك توك!” وكأن النجاح أصبح مرهوناً بعدد الإعجابات، والطموح يُقاس بعدد المتابعين. مشهد كهذا قد يجعلك تضحك للحظة، ثم تبكي عندما تدرك أن الطفل الذي كان يريد أن يكون عالماً، صار الآن يحلم بأن يأكل عشرة بيضات نيئة على الكاميرا ليحصل على لقب “ملك التحديات”. ففي حين ترفع الأمم الأخرى شعارات مثل “المعرفة قوة”، نجد أنفسنا نرفع شعار: “حط الكاميرا ..وارقص… والمستقبل مضمون!” في النهاية، علينا أن نعترف بأن التفاهة ليست العدو الوحيد، بل هي نتيجة طبيعية لفقدان الاتجاه. المشكلة ليست في وجود من يرقص على تيك توك، بل في ملايين يشاهدونه ويصفقون له. التفاهة قد تبقى جزءاً من المشهد، لكن يجب ألا تكون في مركزه. إذا أردنا إصلاح الحال، علينا أن نتوقف عن التصفيق ونبدأ في البحث عن العقول التي تستحق أن تتصدر المشهد. أما أولئك الذين جعلوا من “تحدي الأندومي” فلسفة حياة، فنقول لهم: كلوا براحتكم، لكن دعونا نبحث عن معنى وقيمة. ودمتم سالمين دكتور محمد العوساني