على عكس كل ما يشاع عن مفهوم الوحدة اليمنية، بأنها قضية وطنية، قومية، إسلامية، فإن مفهومها الحقيقي والواقعي، لا يخرج عن مفهوم اقتصادي خالص، يقوم على حساب المكسب والخسارة، إذ إن الشمال الذي يعاني كثافة سكانية، وندرة في الثروة، وضيقا في مساحة الأرض، يرى في الجنوب كأرض وليس كإنسان، الحل لكل مشكلاته على المدى القريب والمنظور والى ما لا نهاية، في حين يعيش الجنوب حالة رفض ورعب، من ان هذه الوحدة وبمفهومها هذا ( القائم على الطمع ) تمثل الخطر الذي سيفني وجوده وكيانه باعتباره -الجنوب- شعبا قليل العدد إذ لا يعادل تعداد سكانه ما نسبته 25 في المئة من سكان اليمن، مقابل امتلاكه لما يزيد عن 75 في المئة من مساحة الأرض و 80 في المئة من دخل البلاد.
وتأسيسا على هذا المفهوم، فإن كل الحلول التي تطرح لمعالجة مشكلة الجنوب مع الشمال بخصوص الوحدة، مازالت حتى اللحظة، بعيدة عن استيعاب الواقع، أو عاجزة عن مواجهته، بحلول ناجعة وليست «ترقيعية».
والغريب ان ومن بين كل السياسيين اليمنيين، لم يجرؤ أحد، على البوح بما ينبغي أن يكون، رغم علمه بما هو كائن، على الأرض وفي النفوس، وما سيكون بالنسبة لهذه القضية، في حال استمر التعنت في عدم الإنصات لمطالب الجنوبيين، والاستجابة للحقائق على الأرض.
وعلى هذا يمكن الجزم، ان ليس من الصعب، بل سيكون من الاستحالة إقناع الجنوبيين، بالاستمرار في أي شكل من أشكال الوحدة مع الشمال، رغما عن إرادتهم، في ظل سيادة هذا المفهوم الذي تفرضه ظروف الشمال والذي لن يتغير، وان تغير فإن الشمال سيكون أول الرافضين للوحدة مع الجنوب، باعتبار الجنوب حينها سيكون قوة اقتصادية وثقافية ودينية معتدلة ، سيما وأن الجنوب ذا المذهب السني الخالص، الرافض لثقافة القبيلة وحكمها، وصاحب مشروع الدولة المدنية، سيصبح خطرا على المؤسسات القبلية الحاكمة في الشمال والتي لا تقبل الانخراط في مشروع الدولة.
لقد سقط مشروع الوحدة اليمنية بالنسبة الى الجنوبيين، منذ أيامه الأولى، أولا بسبب ممارسات نظام علي عبدالله صالح وحلفائه من جماعة أخوان اليمن، ثم بسبب حربين طاحنتين شنهما الشمال على الجنوب باسم الوحدة، والأسوأ بالنسبة لهذه المشروع إن هذا السقوط تجاوز مرحلة الفشل، القابل لتكرار المحاولة بحثا عن النجاح، سيما ان شيئا كبيرا لم يحدث بالنسبة لمفهوم الشمال للوحدة والذي لا يريد مغادرة مفهوم الفيد والنهب، والسعي الى استثمار أرض الجنوب ومساحته وثرواته فقط، بعيدا عن أي تقدير أو وضع اعتبار لشعب الجنوب، الذي يتهمه ساسة ومنظرو الشمال، بأنه عبارة عن أقليات أجنبية، جاءت من الهند، والصومال، واندونيسيا فسكنت أرضا يمنية، وان هذه الأرض ينبغي أن تعود لأهلها اليمنيين.
من الخطأ النظر إلى أن الوحدة اليمنية مازالت تمتلك مقومات البقاء والصمود، فهي أضعف بكثير من هذا الاعتقاد، ليس من الآن ولكن منذ سنوات طويلة .
لقد سقط مشروع الوحدة خائرا أمام إصرار، مئات الآلاف من الجنوبيين الذين خرجوا إلى الساحات ومازالوا، حفاة وجياعا، من دون أن تتمكن هذه الوحدة وحماتها من قمع إرادتهم رغم استخدامها كل أدوات الترغيب والترهيب، والقمع والقتل التي ورست ضدهم ومن دون رحمة.
وعليه فهذه الوحدة، التي عجزت عن فرض ذاتها على الجنوبيين حين كانت تمتلك دولة، وجيشا قمعيا، ومالا لشراء الذمم هي اليوم في أضعف حالاتها، وهي اعجز من أن تنتصر وتفرض مشروعها على الجنوبيين، بعد أن تغيرت موازين القوى لصالح المطالبين باستعادة الدولة الجنوبية، والذين باتوا يملكون السلاح والسلطة، ويسيطرون على معظم ارض الجنوب.
ولعل ما يعزز القول أعلاه ان الجنوبي الذي كان يقبض عليه من قبل أجهزة امن الوحدة لمجرد مشاركته في مسيرة مناوئة لها، فتعذبه وتسجنه وتقطع معاشه، بتهمة الدعوة للانفصال، بات اليوم هو المحافظ وهو مدير الأمن ومدير المديرية، ورئيس قسم الشرطة في معظم محافظات الجنوب، في مقابل تلاشي الوجود الوحدوي في الجنوب، بعد أن سارع ما تبقى من كانوا يميلون للوحدة لإعلان ولائهم للقضية الجنوبية.
من هنا فإن كل من يتحدث عن حلول، منقوصة للقضية الجنوبية، منطلقا من قناعاته وحساباته ومصالحه هو أكانوا أشخاصا أو دولا، ومن دون وضع اعتبار للإرادة الجنوبية، ولحق الشعب الجنوبي في تقرير مصيره، فإن مثل هذه الحلول لاشك ستولد ميتة ولن تعيش أكثر مما عاشت معالجات علي عبدالله صالح لهذه القضية، وهي المعالجات التي زادت الأمور تعقيدا حتى أوصلتها إلى ما وصلت عليه اليوم.
كاتب صحافي من جنوب اليمن