لم يعد هناك سبتمبر حقيقي على أرضه، ولم يعد لسبتمبر "عكاظية صنعاء" للخطابة والشعر، فهو بالنسبة لها تاريخ تسلسلت منه جمهوريات استكملت دورتها وأعادة انتاج الماضي بنسخته المعاصرة القوية.
تلك الحقيقة التي لم تستوعبها حكومة الشرعية وهي تحتفي بصورة بائسة بسبتمبر في عدن وفي ظروف لا يجد فيها المواطن ضوء أو كسرة خبز نظيفة.
ومع أن الجنوبيين يدركون بأن الشرعية كيان وظيفي إنتقالي،يعترف بها العالم ويدعمها التحالف، فأنه يتعين عليهم أن يضعوا تعريفات واقعية لخطوط التماس ومساحات التداخل معها، تماماً مثلما يتعين على "الشرعية" أن تفهم بأنها سلطة انتقالية نحو وضع غير محدد، وعليها احترام الشارع الجنوبي الجريح الذي لم تجف دماؤه بعد، فلديها واجبات مهولة تغنيها عن الخطابات الفاضية.
لقد أصبحت "السبتمبرية" مزاريب لتصريف الحالات النفسية المأزومة، لإعادة تدوير الخطاب بنفس الرتم والمعنى المخرب، وأصبح الاحتفال بها مأتم راقص تهتز عليه الأجساد بانفعالات الذبيح الذي ترقّصه الدماء النافرة منعنقة.
فأي سبتمبر هذا الذي تُسخن له الطبول المشروخة والنفوس المكلومة..
إنه سبتمبر الفرقاء الذين يحتفون بدم التاريخ المسفوك على كل شبر من الجغرافيا المنحوسة التي يقفون عليها.
الجنوب أيضاً ربما يصبح "البطل المغيّب" الذي يحمل مشاقر الفرح بانتصاراته على أعدائه لكنه منهزم شر هزيمة أمام الذات، فلا رؤية ولا سياسة ولا كيان واحد، عدا كلمات تُرمى هنا وهناك.
بمعنى أن الجنوب لن ينتصرعلى أعدائه في نهاية المطاف، إلا إذا انتصر على ذاته، وانتصر على وهم الوطن المطبوخ في أفران المكونات المتعددة، وعلى لحظات الشتات التي يُقسَّم الجنوب فيهامجلساً مجلساً، وعلى الهدم بمعاول الصحافة وشبكات التواصل، وعلى أشياء كثيرة.
إذا انتصر الجنوب على ذاته فلن يقف أمامه أحد مهما كان جبروته وسيرجِّح أي ميول خارجي لنصرته.
والعكس صحيح، إن ظل الجنوب غير جاهز، لن يبقى أمامهم سوىأن ينتظروا انعكاسات السياسة الأقليمية والدولية، وهي مقامرة غير محسوبة.
سبتمبر بلا جمهورية وأكتوبر بلا كيان..
لا يحق لأحد أن يسخر من الآخر..
وغداً سيحتفل الجميع بثورة اكتوبر كرمزية قادت إلى هنا، إلى أرض تنتظر الخرائط القادمة.
والجديد في اكتوبر القادم أن الجميع يحتفون به بحرية كاملة من صنعاء إلى عدن الى مناطق "الدياسبورا" وسيخرج كل بطريقته ووفقاًلهواه معاني الاحتفال، لكن أحداً لا يفهم ماذا بعد؟؟؟
بملء الفم يمكن أن يقال بأن الاحتفاء بأيلول سبتمبر هونوع من التلاوة الرخوة على ضريح خاو لا شيء فيه سوى وهم صنعته مجد الكلمة عندالساسة والأحزاب، فاليمن سار على سجيته ودحرجته تقلبات كبرى لأكثر من نصف قرن من الزمان، بينما أنجزت شعوب، لا إرث ثوري لها، ما تعتبره اليمن حلماً رومانسياًبعيداً عن العين والخيال، وهي التي هوت بعد كل"السبتمبرات" الراحلة إلى قعر الكوكب وإلى أسفل مرتبة بين الأمم.
وبالفم المليان لأهل الجنوب، إذا لم تستطيعوا أن تجمعوا الشمل بعقلية سياسية واقعية وناضجة، فإن الأصوات والهمم ستنطفئ يوماً ما، ويتحول الشارع الجنوبي إلى معدمين وفقراء وهوامش اجتماعية، يلاحقون نخب العهد الجديدورؤوس الأموال والطبقة السياسية التي تتشكل وكل رموز الزمن الآتي، يلاحقونهم لأجل العيش ويشحتون بعض الكرامات والمكرمات بيد سفلى، وتصبح الدماء ذكريات والشهداء مساكين والأبطال مكتئبين إلا من انفلت منهم نحو صفقة مع الضمير.
لقد أذّن الناس من كل صوامعهم ونادوا بأعلى أصواتهم بأن هناك شلل سياسي خطير في الجنوب ولن يتم علاجه إلا بالوخز العميق، فابتعدوا قليلاعن الفخر والمدائح،وابتكروا مقاربات صادمة لتقويم الذات قبل أن تتمسك غرائزكم بحالة دوران الضرير حول نفسه وتفقدوا الإحساس بالواقع، ويأخذ غيركم المبادرة،فتصبحون فيما تأمّلتم واهمين.