لم تكن الوقفة الاحتجاجية التي شهدتها ساحة العروض بمدينة عدن عصر اليوم مجرد تحرك نسوي عابر، بل مثّلت ذروة غضب مكبوت ينفجر تدريجيًا في وجه واقع معيشي وخدمي مأزوم. خرجت النساء هذه المرة، لا فقط للدفاع عن حقوقهن، بل عن حق الأسرة العدنية كاملة في الحياة، في مواجهة ما اعتبرنه سياسة "العقاب الجماعي" الممنهج الذي تتعرض له العاصمة عدن وبقية المحافظات المحررة، تحت ما صار يُعرف في الشارع بـ"حرب الخدمات".
*صرخة نساء لم نعد نحتمل
رفعت المشاركات في الوقفة لافتات خطّت عليها عبارات غاضبة تُدين الانهيار المستمر في خدمات الكهرباء والمياه، وتندد بالانهيار الاقتصادي الذي أرهق كاهل المواطنين. لكنها لم تكن مجرد شعارات، بل تعبير مباشر عن معاناة حقيقية تعيشها كل أسرة عدنية، في ظل تدهور غير مسبوق في البنية التحتية، وفشل حكومي مستمر في توفير أبسط مقومات الحياة.
نساء عدن، اللواتي تجرعن مرارة الغلاء، وانقطاع الكهرباء لأكثر من 16 ساعة يوميًا، وانعدام المياه في بعض الأحياء لأيام متواصلة، قررن اليوم أن يتقدمن الصفوف، ليس فقط للمطالبة بالحقوق، بل لتوجيه إنذار أخير لصنّاع القرار: "لقد بلغ السيل الزبى".
*من يقف خلف المعاناة
لم يعد خافيًا على أحد، لا في الداخل ولا الخارج، أن ما تعانيه عدن ليس مجرد نتيجة لتحديات اقتصادية أو ضعف إداري عابر، بل هو حصيلة سياسات ممنهجة تستهدف العاصمة المؤقتة والمحافظات المحررة منذ سنوات.
يصف كثير من النشطاء والحقوقيين ما يجري بـ"حرب خدمات" تُشن على عدن، عقابًا لها على مواقفها السياسية، وتطلعاتها السيادية، ولأنها باتت تمثل نموذجًا للمشروع الجنوبي التحرري الذي يطمح إلى استعادة دولته. وتتهم أصوات جنوبية فاعلة أطرافًا في الحكومة اليمنية – وتحديدًا من بقايا تحالفات ما يُعرف بـ"الإخوان المسلمين" وحزب الإصلاح – بالوقوف وراء هذا التدهور، من خلال تعطيل أي جهود لتحسين الخدمات، وعرقلة تمويل مشاريع البنية التحتية، بل والعمل على تهميش الكفاءات المحلية في المؤسسات الخدمية.
*تجاهل حكومي ممنهج
رغم تصاعد الغضب الشعبي، لم تُقابل هذه التحركات بردود فعل مسؤولة من الحكومة المعترف بها دوليًا، أو مجلس القيادة الرئاسي، بل استمر التجاهل الممنهج، وكأن عدن ليست ضمن نطاق مسؤولياتهم. لم تصدر أي بيانات تطمينية، ولم تُعلن أي خطط إسعافية، في ظل انهيار سعر صرف الريال أمام الدولار، وتوقف الرواتب، وتراكم مديونيات الكهرباء، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية.
ويذهب مراقبون إلى اعتبار هذا الصمت "تواطؤًا مقصودًا"، يهدف إلى إنهاك العاصمة عدن، ودفع سكانها إلى اليأس أو الفوضى، في محاولة لإضعاف سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يدير الأمن والخدمات المحلية بإمكانات محدودة وسط غياب دعم الحكومة المركزية.
*عدن ومحافظات الجنوب تدفع الثمن
ما يزيد من حدة الغضب، هو الشعور العام بأن العاصمة عدن تُترك لتواجه مصيرها وحدها، رغم أنها تُعد المركز المؤقت للدولة، وتحتضن كل مؤسساتها السيادية، وتتحمل عبء استقبال النازحين وتوفير الخدمات لهم. المفارقة أن المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين – رغم الحصار والعقوبات – تبدو في وضع خدمي أكثر استقرارًا، بفضل مركزية القرار وتماسك مؤسساتهم.
وفي المقابل، تعيش عدن والمناطق الجنوبية المحررة، كحضرموت ولحج وأبين، وضعًا هشًا وخدمات منهارة، نتيجة التهميش المتعمد، وتعطيل الميزانيات، واحتجاز المخصصات المالية، ما جعل المواطنين في هذه المناطق يشعرون بأنهم مستهدفون، لا بوصفهم مجرد متضررين من الحرب، بل لأنهم اختاروا الانتماء إلى مشروع استعادة الدولة الجنوبية.
*صوت المرأة بداية تصعيد شعبي
التحرك النسوي الذي شهدته عدن اليوم قد لا يكون الأخير، بل يُنظر إليه كنقطة بداية لتحرك شعبي أوسع. فالنساء، وهن الأكثر تضررًا من انعدام الخدمات، يقدن الآن موجة من الوعي المجتمعي، تستنهض الضمير الوطني، وتكشف زيف الوعود الحكومية، وتفتح الباب أمام انتفاضة مدنية شاملة، تفرض على الجميع احترام إرادة الناس.
دعت المشاركات في الوقفة كافة فئات المجتمع، من شباب ونقابات وناشطين، إلى الانضمام إلى الاحتجاجات المدنية، والتصعيد السلمي حتى تحقيق المطالب، مؤكدات أن السكوت لم يعد خيارًا، وأن الكرامة لا تُشترى بالفتات.
خاتمة: عدن تنزف من الداخل... *الإنقاذ لن يأتي من الخارج
أثبتت الوقفة النسوية أن العاصمة عدن تملك وعيًا مدنيًا متقدمًا، وأن شعبها لا يزال قادرًا على الصمود والمطالبة بحقوقه، رغم كل محاولات التركيع. لكن السؤال الجوهري اليوم: هل ستبقى عدن تصرخ وحدها في وجه التجاهل؟ وهل سيتحول هذا الحراك إلى نقطة انعطاف في مسار المواجهة مع "حرب الخدمات"؟
حتى ذلك الحين، ستواصل نساء عدن رفع أصواتهن في وجه الجوع، والظلام، والعطش... وكل أشكال الإذلال التي فُرضت على مدينة السلام، عقابًا لها لأنها ما تزال تحلم بمستقبل حرّ وعادل.