في ذكرى فارس الشعر الخالد..شائف الخالدي (أبو لوزة)(ادب)

في ذكرى فارس الشعر الخالد..شائف الخالدي (أبو لوزة)(ادب)

قبل 8 سنوات
في ذكرى فارس الشعر الخالد..شائف الخالدي (أبو لوزة)(ادب)

د.علي صالح الخلاقي:

كم افتقدنا نكهة وحلاوة وطلاوة الشعر الشعبي الجميل، برحيل فارسه الكبير، أمير القوافي، الشاعر شائف محمد الخالدي (أبو لوزة)، الذي غادرنا قبل سبعة عشر عاما، وتحديداً في 31 ديسمبر 1998م، بعد رحلة نصف قرن من النضال الوطني الزاخر، باللسان والسّنَان ..فقد كان رحمه الله صاحب رسالة، في مواقفه وفي أشعاره،  وكان من بين قلائل ممن تميزوا بحضور كاسح وتأثير واسع بين صفوف الجماهير ليس فقط في حياته ولكن بعد مماته أيضاً، فما تزال أشعاره تجتذب جمهوراً واسعاً في عموم الوطن وخارجه، سواء عبر ما تيسر نشره منها مطبوعاً، أو عبر أشرطة الكاسيت أو من خلال الشبكة العنكبوتية. فقد ترك لنا إرثاً شعرياً  ضخماً يخلده، و تُعد أشعاره سجلاً للتاريخ ورصداً للحوادث والمتغيرات التي شهدتها بلادنا على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، والتي عاشها وعايشها وأبدع في تصويرها بكلماته السلسة والقوية التعبير.

عاش الخالدي عزيزاً، معتداً بنفسه، لم يعبأ بالسلطة أو التقرب إليها، إلا في مواقف حذرة، ولم يداهن الحكام أو يبتذل في مدحهم أو التقرب إليهم. بل انحاز إلى الشعب، وكان يجهر بالحق دون خشية أو خوف  والقصيدة لديه  سلاح حاد، ولا بد لها أن تلامس هموم المجتمع وتساهم في حل مشاكله.  ومثلما كان قاسياً في تعرضه للنواقص والعيوب والممارسات الخاطئة فقد كان واضحاً ومنصفاً في التعرض للإيجابيات والتغني بها والإشادة بها وقد حافظ على مواقفه الوطنية، دون أن يتحزب أو يدخل طرفا في اللعبة السياسية وهو ما جعل أشعاره شاهداً على تلك المراحل ودخل بها التاريخ من أوسع الأبواب.. بيد أن استقلاليته في الرأي وفي الشعر جعله عرضة للإهمال الرسمي في حياته، بل وتعرض بسبب ذلك للأذى والمضايقة من قبل بعض المسؤولين  الذين ضاقوا ذرعاً بشعره، فأودع السجن في (لبعوس) بيافع منتصف الثمانينات بتهمة كيدية، ولم تشفع له عضويته في مجلس الشعب المحلي في محافظة لحج حينها. ولا غرابة أن يدفع شاعرنا ثمناً لمواقفه تلك فيدخل السجن في ظل السلطة الوطنية، كما دخله من قبل في عهد الاستعمار، وقد أبدع في (سجن لبعوس) مجموعة من أروع قصائده، حاكم فيها سجانيه وفضح ألاعيبهم وكيدهم.. وقد زاد  ذلك من قوة إيمانه بموقفه وإخلاصه لرسالته كشاعر ربط مصيره وشعره بالوطن والانتصار لقضايا الشعب وقيم الحق والعدل والصدق.  ومع كل ما تعرض له من إهمال رسمي متعمد فقد كانت شهرته جماهيرياً تفوق كثيراً شهرة البعض من الشعراء الذين كانوا يطلون علينا كثيراً عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة بمناسبة وبدون مناسبة، مع أن أشعار البعض منهم لا ترتقي إلى مستوى أشعار الخالدي.

ونجد أن مدينة عدن حاضرة في أشعار الخالدي بكثرة، فقد عاش فيها أجمل سنوات شبابه واستقر فيها للسكن والعمل معظم سنوات عمره ونظم فيها أكثر قصائده ومساجلاته الشعرية،وكانت تتنازع حبه مع مسقط رأسه يافع، وهو ما ينعكس في كثير من قصائده، مثل: (متى يا عدن با تفرحي؟)، (عادش ياعدن)، (ما وسعني عدن!) ، (عصابة في عدن)، (باعونا وباعوا عدن) ، (مهلا يا كريتر عدن) ، (قالوا عدن حُرَّة !) وهذه الأخيرة نظمها على شكل زوامل..كشكل من اشكال النضال والرفض – حينها- للواقع الذي أفرزته حرب 1994م. ولا شك أنه كان يتنبأ فيها بهبة الشعب الجنوبي المباركة في حراكه السلمي ضد ثعالب الفيد الغازية – كما اسماهم- وهي الثورة التي بدأت بعد عقد تقريباً على نبوءة الشاعر.  ناهيك عن تغني الشاعر في كثير من أشعاره بعدن، الأرض والإنسان، ورصد وتسجيل ما شهدته من أحداث على مدى حياته الإبداعية، وتأثره الملحوظ باللهجة العدنية.

وللتاريخ نقول: إن الخالدي تغنى كثيرا بالوحدة، مثله مثل كثيرين غيره، منذ أن كانت حلماً وهدفاً لنضالات الوطنيين ممن اعتبروها لبنةً أساسية على طريق الوحدة العربية. وقد جسد شاعرنا إيمانه بها قولا وفعلا منذ أشعاره المبكرة ثم في التحاقه بطلائع الجنوبيين ممن هبوا للدفاع عن الثورة والجمهورية في صنعاء. وظلت الوحدة اليمنية من بين القضايا التي شغلت هاجسه الشعري، خاصة في فترات الاحتكاكات الحدودية، وحتى يوم تحقيقها في يوم 22مايو 1990م. ولشاعرنا الخالدي ما يعتز به من تراث ومواقف في هذا الصدد أوردناها في سياقها التاريخي في هذا الديوان.

 لكنه صُدِمَ مثل كثيرين غيره بانحراف الوحدة السلمية عن مسارها، منذ أن برزت بوادر الخلافات في المرحلة الانتقالية، التي أطلق عليها البعض (الانتقامية) ، مرورا بالتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق، التي تم الالتفاف عليها من قبل نظام صنعاء القبلي- الأسري ثم إعلانه الحرب صيف 1994م التي نتج عنها اجتياح الجنوب واحتلاله فأصيبت الوحدة في مقتل. وهو ما حذر منه الخالدي في كثير من اشعاره التي نبهت من المخاطر قبل وقوعها.

 ونقول بفخر أن الخالدي من أوائل الشعراء الذين رفضوا وقاوموا نتائج تلك الحرب الظالمة، بل وحذر، بجرأته، بُعيد نشوة النصر المزعوم، وقبل أن تلتأم الجراح، من خطورة تحول اجتياح نظام صنعاء للجنوب، الذي ضحّى من أجل الوحدة، إلى احتلال وضم والحاق وتنكر لشريك الوحدة، وقال في رسالة وجهها للرئيس المخلوع في 4/10/1994م، وهو في أوج زهوة بنصره الموهوم قائلا:

أهم شي أن نحث الأب لا يغفل

  من أن يعمِّش عليه الساحر المحتال

أو مثل جاء ضيف وتحَوَّل إلى محتل

  بعد أهل بيت الإمامه وأحمد السركال

ومُحتمل يدَّعي أنه نبي مُرسل

  إذا صفى الجو له أو شاف باعه طال

ونجد كل يوم في أشعار الخالدي ما يكشف عن حدس الشاعر وتنبؤه بكثير من مسارات ونتائج الأحداث التي اثبتت الأيام صحتها...

فعقب الحرب، وفيما كان يتجول مع أصدقائه في كريتر، عز عليه (عسكرة) مدينته عدن وهو يشاهد جحافل العسكر والمدنيين القادمين المدججين بالسلاح عقب الاجتياح المشؤم صيف 94م  يعبثون بأمنها ويتجولون بالرشاشات في شارعه الأثير (السوق الطويل) الذي لم يألف مثل هذه  المناظر الغريبة التي تتعارض مع قيم المجتمع المدني الحضاري الذي تمثله مدينته عدن.. فذكَّر هؤلاء العابثين بأمن وطمأنينة عدن والجنوب كيف كانوا  فيما مضى يدخلون بسلام آمنين بعد أن يتركون (جنابيهم) خلفهم في كرش وديعة حتى عودتهم إياباً.. لا أن يدخلوها مدججين بالسلاح  ويعبثوا بأمنها وطمأنينتها كما كان حالهم بعد نصرهم الموهوم.. يقول الخالدي في زوامله التي نظمها عقب حرب 1994م منتقداً تلك السلوكيات الغريبة:

طالت سُبُلْكُمْ يا الفروخ المُنْتَهِشْ

  واصبح لكم داخل عدن قاله وقِيْل

كُنتم تحطُّون الجنابي في كرش

  واليوم رشاشات بالسوق الطويل

ورغم دوران الزمن، وتبدل الأحوال نحو الأسوأ للأسف الشديد إلاَّ أنه لم يفقد الأمل أو يرضخ للأمر الواقع أو ينكسر معنويا أو نفسياً.. وهذا قمة الانتصار.. لأن الهزيمة النفسية تفقد المرء بارقة الأمل، وتجعله خانعاُ ذليلاً.. لا حول له ولا طول ..يتقبل الظلم والجور الواقع عليه دون أية رد فعل.. وكأن ما حدث له قدر منزل من السماء.. وليس من صنع بشر غدروا بالعهود والمواثيق الوحدوية .. وهذا ما أدركه شعبنا الأبي الذي  تقبل نتائج الحرب الظالمة مكرها وامتص مرارتها بصمت.. لكنه لم يذعن أو يستكين لها، بل أخذ يتطلع إلى يوم الخلاص والفكاك من هذا الوضع الذي لا يمت إلى (الوحدة) بصلة.. بل وأي وحدة بقيت بعد غزو واجتياح الجنوب واستعماره  بشهادتهم بعد اختلافهم ..ولا بد أن يأتي الفرج بعد الضيق، كما قال مخاطباً حبيبته عدن:

بل إنَّما صبري وصبرش يا عدن

  لا فوق صبرش ذي صبرتي ما عليش

قلبي دليلي من قفا الضيق الفرج

  ذي لي وذي لش با يقع حاضر وكَيْشْ

كما كان شاعرنا يحث شعبنا على الثبات وعدم الارتباك.. لأنه صاحب حق وقضية عادلة لن تضيع..ومثلما رحل الأول، ويقصد به الاستعمار البريطاني، فأن الآخر ويقصد به الاستعمار الداخلي، كما وصفه، المفكر الكبير أبوبكر السقاف، سيرحل حتما... يقول في وصيته التي اختتم بها زوامله السابقة عام 94م:

إيَّاك يا شعب الجنوب أن ترتبش

  شُفها مراحل مثلما عابر سبيل

ما حَدْ بها دائم على حِيْلِهْ وغَشْ

  لَوَّل رحل وآخر مُراعي للرحيل

ما أروع هذه الكلمات المجلجلة والمدوية التي خرجت من فم هذا العملاق في وقت مبكر كان فيه شعبنا يلملم جراحه ومعاناته من هول الصدمة الكارثية التي حلت به.. إنها نبوءة تجلت فيها فراسة شاعر  رأى في (نصرهم) المزعوم  حينها هزيمة قادمة لا محالة، وشبهه بسحابة صيف عابرة.. ستزول حتماً لأن ما بُني على الغش والحيلة والاحتيال مصيره الزوال، مهما طال به المآل..

رحمك الله أيها الشاعر الألمعي، الفَطِن، فقد  كنت صادق الحَدْس، فقد رحل المحتلون الجدد كما رحل قبلهم الاستعمار الأول، ولم يعد لهم (داخل عدن قاله وقِيْل) ..ولا مكان لعنجهيتهم وتجوالهم بالرشاشات بـ(السوق الطويل)..بعد أن حقق شعبنا النصر الذي تنبأت به بثاقب بصرك وفراستك التي لم تخطئ.. ولم ولن (يرتبش) شعبنا الجنوبي  في نضاله لبلوغ هدفه..

وما أحوج شعبنا الجنوبي اليوم للتمسك بصرخة شاعرنا تلك..(إياك يا شعب الجنوب أن ترتبش).. فقد اقتربنا من الهدف .. وما ضاع حق وراءه مطالب.. وحق شعبنا بيِّنٌ واضح وضوح الشمس في رابعة النهار.. يتمثل بحريته واستقلاله..وعليه أن يعض عليه بالنواجذ، وفاء لتضحيات الشهداء..

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر