اعتقد أن أي زائر إلى أي من بلاد الله الواسعة تشد انظاره الكثير من المشاهدات التي تلفت انتباهه من الوهلة الأولى وتترك أثرها في نفسه، وقد تدفع به في الحال إلى مقارنتها بما يعتمل في وطنه ومدينته..ولا شك أنه سيتحسر حين يرى في رحلته نهوضاً وتقدماً حضاريا يجاري تطورات العصر، فيما واقع وطنه ومدينته يشهد انحسارا فضيعا والعودة القهقرى في ارتداد مريع إلى الوراء...وهذا ما كان كان عليه حالي شخصيا وأنا أتجول في شوارع وحدائق وساحات مدينة "قازان" عاصمة جمهورية تتارستان الفيدرالية في روسيا الاتحادية، خلال أيام زيارتي لها في نوفمبر الماضي.
وسأقتصر المقارنة في الداء السرطاني، المتمثل بالبسط العشوائي، الذي يكاد يفتك بعدن ويلتهم متنفساتها وشوارعها ومساحاتها العامة، حتى وصل الأمر إلى الأعتداء على حرم المدارس والجامعات.. وهو أمر يثير الشجن ويبعث الحزن على ممتلكات الأجيال القادمة.
وشتان أن تجد مثل ذلك في مدينة "قازان" وهي مدينة عريقة في القدم، وتعد أقدم من العاصمة موسكو بـ ١٥٠ سنة، ورغم عمرها القديم هذا فأنك تشعر أنك في مدينة عصرية كأن شوارعها الفسيحة وحدائقها العديدة خُططت للتو لتواكب التطور المذهل الذي تشهده تحت إدارة رئيسها الحالي وسلفه. ورغم الانفلات الذي شهدته بعد سقوط الاتحاد السوفيتي إلا أنها لم تستسلم للفوضى أو يتجه المواطنون إلى العشوائية في البسط على ما حولهم ..فلم تُمس ساحاتها العامة ومنشآتها ومعالمها التاريخية ولم يُعتدَ على شوارعها أو حدائقها، بل بقيت كما هي، بما في ذلك وسط المدينة ومعلمها التاريخي (كرملين قازان) الذي الذي بُني قبل عدة قرون ولم يُمسس محيطه أو يُعتدى على مساحاته..وتستغرب وأنت ترى المساحات الواسعة التي لو كانت في عدن لسال لها لعاب سماسرة وبلاطجة البسط العشوائي..
وهنا دارت بي عقارب الذاكرة إلى عدن باحيائها التي خططها البريطانيون قبل منتصف القرن الماضي، وكيف كانت مخططاتهم تراعي بسعتها آفاق التطور، وأين أصبح حالها منذ توالت عليها موجات العشوائية، خاصة منذ حرب اجتياح الجنوب عام 94م..ثم الموجة الثانية التي ما زالت مستمرة بعد طرد الغزاة الحوثيين عام 2015م، لكن هذه الموجات الأخيرة للأسف على أيدي من يدعون أنهم مقاومة جنوبية، وقد يرفع الباسطون علم الجنوب، أو صورة شهيد سقط من أجل عزة وكرامة الوطن، فيتاجرون بدمائهم..لقد تآكلت الساحات العامة والشوارع وممتلكات الدولة ولا بد من تحرك من قبل الرأي العام والجهات المعنية حتى لا نندم بعد فوات الأوان..
في قازان تجولت مع صديقي د.محمد العماري في الأحياء القديمة التي على الضفة اليسرى لبحيرة "كابان" بمساجدها القديمة ومناراتها العالية، والتي كانت مركزا تجاريا وصناعيا في عهد التتار، وهي اليوم متحف مفتوح في الهواء الطلق يعبر عن روح تتارستان وثقافة شعب التتار، فيما تقلصت وتتقلص مثل تلك المساحات في عدن وضاق الخناق على أحيائها القديمة، وأصبحت مساحة متحفها العسكري محلات تجارية، وحُوصرت قلعة "صيرة" التاريخية بالمباني، وصوردت منشآت عامة وصعدت المباني العشوائية لتلتهم الجبال وتحول أسوارعدن التاريخية إلى أطلال.
في جولتنا على ضفاف نهر الفولجا رأينا كيف تم الحفاظ على المساحات المطلة عليه وتحويلها إلى متنفسات وحدائق ومساحات عامة يرتادها المواطنون..ولم يُسمح بالبناء عليها أو بالقرب منها، باعتبارها ملكاً للأجيال..وعلي سبيل المثال، تجولنا على ضفاف النهر ولفتت انتباهي تلك المساحات الواسعة التي تُركت كمتنفسات للمدينة، وينتصب فيها فقط مبنى وحيد يشبه القِدْر الكبير وكأنه مُشرع على الأثافي، وعلمت من د.العماري أنه «قصر الزفاف» ويتألف من طابقين وبارتفاع 32 متراً ويرتاده العرسان الجدد والزوار للاستمتاع بالمناظر الخلابة للمدينة والنهر، وعلى الفواصل الحديدة على ضفة النهر يترك العرسان الجدد أقفالاً كتذكار لزفافهم الميمون على أمل أن لا تنفصم عراه، ورأينا من تلك الأقفال المغلقة أعداداً كثيرة كُتبت عليها عبارات حُبٍ أو أسماء أصحابها. وفي هذه المساحة التي تستوعب مئات الآلاف وجد سكان قازان الفرصة لمتابعة مبارايات كأس العالم عبر شاشة كبيرة عملاقة.
ولعلنا نتذكر كيف كانت عليه أحياء عدن بحالة أفضل حين خطط لها (المستعمرون) فجاء (الوطنيون) ومن بعدهم (ناهبو الوحدة!!) ليجهزوا على متنفساتها ويبتلعوا مساحاتها، ولا هم لهم إلا الربح والبيع والشراء بأراضي الدولة والتساهل في قضم وبلع المساحات المحيطة بالمدارس والمنشآت الحكومية لتنمو بثور العشوائية التي شوههت جمال عدن وما زال الاعتداء جاريا على قدم وساق..
بل أن الخطر الداهم والأكثر خطورة هو ما تتعرض له عدن الآن بما تبقى من مساحاتها ومتنفساتها وممتلكات الناس من أذى على يد أبناء الجنوب الذي تحول كثيرون منهم من مقاومين للغزاة الحوثيين إلى مقاولين للبسط والنهب، وهو ما تدل عليه كثرة الأطقم العسكرية التي تحمي الباسطين أو تبتز المواطنين عند بناء القطع المصروفة لهم.. والأجدر أن تتجه هذه الأطقم التي تجوب مناطق بير فضل والعريش والممدارة وجهتها الصحيحة وتغدو أداة من أدوات إعادة هيبة الدولة وتثبيت النظام والقانون وحماية ممتلكات الدولة والمواطن.. هذا أن أردنا تقديم نموذج لدولة النظام والقانون التي ننشدها ولكي تكون عدن بإرثها الحضاري الضارب في القدم نموذجاً للعاصمة الجميلة..