لعلّها فكرة مجنونة: أن تفعل فيلماً سينمائياً في زمن الحرب، في وقت إقامتك في مدينة مُحاطة بالرصاص والإنفلات الأمني من كل جانب والاغتيالات تحدث هنا وهناك.
هذا أول ما يأتي لتفكير الواحد حين يسمع أن فيلماً سينمائياً تمّ تصويره وتنفيذه كاملاً في مدينة عدن(جنوب اليمن) بطاقم شبابي ومواهب يمنية من أول نقطة في الفيلم وحتى آخره.
إنه فيلم “عشرة أيّام قبل الزّفة” الذي يواصل عروضه في عدن وقد اقترب من الشهر الثالث منذ بداية العرض الأول.
وقبل البارحة تم الإعلان عن دخول الفيلم نفسه في قائمة الترشيحات الأولى لأوسكار أفضل فيلم ناطق بغير الإنكليزية. وعلى الرغم من صعوبة وصول الشريط إلى القائمة النهائية، لكن يكفي أهل العمل أنهم فعلوا شيئاً يستحق الالتفات في زمن الحرب والموت اليومي المُعلن.
لكن كيف بدأت المُغامرة؟ على أي نحو صُنعت الخطوة الأولى من أجل بلوغ إنتاج هذا الفيلم؟ يُخبرنا مُخرج الفيلم، عمرو جمال (1983)، بأن الفكرة بدأت من وقت طويل حيث كانت الحياة هادئة في المدينة.
لكن أكثر من ظرف أقعد تلك الفكرة في دولاب الانتظار. وقال صاحب “كرت أحمر” ( مسرحية له عرضت في 2010) في اتصال هاتفي مع “العربي الجديد”، إن أساس العمل كان من المفروض أن يظهر على شكل مسلسل درامي.
“لقد اشتغلنا عليه في ظروف صعبة للغاية من جيوبنا، وعقدنا ورش عمل واجتماعات. أكثر من ثمانية أشهر ونحن نكتب على نحو يومي، أنا ورفيقي مازن رفعت”. لكن، بعد كل ذلك الوقت المبذول، قالت الجهة التي كان من المفروض أن يُعرض العمل الدرامي على شاشتها: “لا نملك فلوساً كي نتحمّل إنتاج الفيلم”. لتكون العودة إلى النقطة الصفر.
وكان صاحب مسرحية “معك نازل” (2009) قد أخبرنا أن اللجوء إلى الشاشة الصغيرة كان أمراً اضطرارياً حيث يعتقد بأن التلفزيون عبارة عن “مجال بلا تاريخ، شيء للترفيه لا يبقى لعُمر طويل، إنه عبارة عن حقل تجارب والاستفادة من التعامل اليومي مع الكاميرا من أجل الحصول على مرونة التعامل مع الكاميرا السينمائية، هو عشقي الأول”.
“لكن الحياة لا بد أن تستمر”، يقول لنا عمرو جمال وهو الكلام نفسه الذي قاله لرفاقه، وعلى وجه الخصوص لمازن رفعت (شريكه في كتابة النص). واللافت في مسألة الإعاقات المتتالية تلك، أن قصة عمل “عشرة أيّام قبل الزفة” إنما يحكي قصة شاب وفتاة يحاولان إتمام حفل زفافهما وهما يسعيان لمعالجة كل الصعوبات التي وقفت أمامهما.
وعلى كل ذلك أن ينتهي قبل 10 أيّام من موعد الزفاف. من تلك العقبات الآثار المرتبطة بحالة الحرب وحالات النزوح وتدخلات الجماعات المستفيدة من بقاء أحوال وأجواء الحرب على حالها.
وكان لتلك الحياة أن تستمر حين اجتمع عمرو مع رفيقه مازن رفعت، وأخبره بضرورة خروج النّص من الدولاب والانطلاق في عملية تنفيذه “كانت إجابة مازن يائسة حين قال لي: لم نقدر على الشغل في زمن السلم فكيف سنقدر عليه في وقت الحرب”؟! كان مخرج العمل يعرف الظروف المالية الصعبة التي يمر بها رفيقه إضافة للفريق الذي سيطلبه للشغل معه، وعلى وجه الخصوص مع استحالة العثور على المال المطلوب لإنتاج العمل.
“لكن بحكم الصداقة القديمة عملت على عودة الفريق إلى الشغل وإعادة ترتيب النص الدرامي ليكون صالحاً لظهوره على هيئة فيلم سينمائي”. وبعد الانتهاء من النّص بدأت مرحلة أُخرى، عملية التواصل مع أفراد الفريق المُختار لأداء الأدوار ومحاولة إقناعهم بالعمل تحت ضغط كافة الظروف المحيطة بالمشروع.
“لم أكن أتوقع أن يكون تجاوبهم على ذلك النحو السريع”، يقول لنا جمال، مضيفاً أن الفكرة التي اكتشف لاحقاً أنها سيطرت عليهم كانت “إذا قُتلنا ونحن نعمل فهذا متوقع، وإذا لم نعمل فسوف نموت من البطالة واليأس فلماذا لا نعمل؟”، وهو ما كان.
مع بداية الشغل، ظهر تعاون الجهات الرسمية لافتاً ولو من جهة معنوية وتشجيع وسهولة في نيل تصاريح التصوير.
أمّا مسألة الدعم المالي، فلم تكن سهلة، وقد كان ذلك متوقعاً “نحو 30 ألف دولار هي جملة ما قدرنا على جمعه من أجل تنفيذ العمل”.
لكن المُبهج في مرحلة الشغل سيأتي لاحقاً، بحسب ما يقول لنا مخرج الشريط. “حين نزلنا إلى الشارع، وكان في خارطة شغلنا محاولة تقليص مسألة التصوير الميداني إلى أقصى حد ممكن تحسباً لعمليات التفجير والاغتيالات والاشتباكات العسكرية”.
لكن حين انطلق التصوير في منطقة “كريتر” الشعبية، ظهر أن الصورة التي كانت في بال فريق العمل لم تكن دقيقة تماماً “لقد وجدنا ترحيباً عظيماً من الناس ومن الأهالي ومن أصحاب المحالّ. بل إن بعض البيوت فتحت لنا أبوابها كي نستريح فيها أثناء فترات توقف التصوير”. وانتهى العمل وصار جاهزاً لتظهر مشكلة أُخرى: أين القاعات الصالحة للعرض؟
أغلب الصالات الموجودة أو التي من الممكن إعادة تأهيلها في مدينة عدن هي صالات بلا سقوف حيث بُنيت كي تكون ملائمة لأجواء المدينة الحارّة، وأي مكان بلا سقف، من السهولة أن يرمي أحدهم قنبلة بداخله.
لم يكن من الممكن حينها غير اللجوء لصالات الأعراس والحفلات العامّة وما شابهها كي تكون ملائمة للعرض السينمائي بعد إعادة تأهيلها وتركيب شاشات ضخمة في داخلها.
ومن بعدها بدأت العروض في مُفتتح عيد الأضحى الماضي، وما تزال مستمرة حتى اليوم بحفلات كاملة العدد. يقول عمرو جمال: “اكتشفنا أن الناس على الرغم من كل العذابات التي تُحيط بها، تريد لمس البهجة بأي طريقة كانت، تريد أن تنسى ألم الحرب وأثقالها، وظهر أن السينما وسيلة علاج لكل ذلك”.