كنا قد أستبشرنا خيرا بقرب التوصل لتفاهمات بشأن تطبيق اتفاق الرياض على اعتبار ان سريان الاتفاق سيمهد لإعادة تطبيع الاوضاع وانهاء الأزمات المتراكمة ومعالجة الوضع المزري الذي تشهده المناطق الجنوبية والمحررة على حدا سواء غير ان هذه التفاؤل النابع من حجم المعاناة والمأسي سرعان ما أصطدم بعقبات مفتعله يبدو انها ستعيد الاوضاع الى نقطة الصفر.
عندما تم توقيع اتفاقية الرياض نظر اليها البعض انها تنتقص من حق شعب الجنوب ولا تلبي أهداف ثورته وتضحايته الجسام فيما نظر اليها البعض انها موضوعية الا ان الامتحان والتحدي الحقيقي يكمن في ضمان تطبيقها والتزام الشرعية بتنفيذها ،حينها هناك من اوضح لأصحاب وجه النظر الاولى ان الاتفاقية هي محطة في طريق تحقيق الأهداف المعلنة لشعب الجنوب وليس هدفا بحد ذاته فيما تم التأكيد لأصحاب وجه النظر الاخرى ان تطبيق الاتفاق سيؤمن تحقيق الإستحقاقات لشعب الجنوب بطريقة سلسة وناعمة وان عدم التطبيق سيؤدي الى فرض خيارات اخرى ستتجاوز استحقاقات الاتفاقية و مساحة الشراكة الممنوحة فيه الى ما هو اعظم واكبر من ناحيه انتزاع الحقوق كاملة دون انتقاص او تقاسم.
تعددت الفريضات والتسأولات والمخاوف والمحاذير من اتفاق الرياض غير ان الاجابة عن كل ذلك التعدد كان الزمن والايام كفيل بتوضيحها ، وبعد قرابة العام على التوقيع صار بالامكام استخلاص ابرز واهم النتائج، ومنها ان الشرعية أكدت على عدم التزامها بتنفيذ الاتفاق وعدم رغبتها في تطبيق مبدأ الشراكة ، فما كان من ذلك الا ان زاد الوضع تعقيدا وصعوبة وبالمقابل لجئ الانتقالي الى اتخاذ خطوات أحادية ومن ضمنها اعلان الإدارة الذاتية كرد وكنتيجة منطقية لتعنت الحكومة في تنفيذ خارطة الطريق وكضرورة ملحة لمواجهة التحديات والازمات التي خلفتها الحكومة وراء ظهرها ..
تأخر تنفيذ اتفاق قرابة العام فتمخض عن ذلك اعلان الإدارة الذاتية وهي نتيجة تلبي الى حد معين بعض تطلعات الجنوبيين فيما لو احسن الانتقالي إدارتها وتوظيفها بالصورة الصحيحة والسليمة ، ومع هذه النتيجة الغير منتظرة استشعرت الحكومة الشرعية خطر ذلك الاعلان على نفوذها الذي بدأ بالإنحسار مع سيطرة مطلقة للانتقالي على خمس محافظات عدن لحج ابين الضالع سقطرى، وبقاء ثلاث محافظات شبوة حضرموت والمهرة في وضع ملتهب يُهيئ لها الالتحاق لسلطة الإدارة الإدارة الذاتية خاصة المهرة وحضرموت التي يتأهب ابنائها لفرض الإدارة الذاتية شعبيا واداريا علاوة على شبوة التي اصبحت الدائرة تضيق على السلطة المحلية بعد انتفاض ابناء وقبائل مديريات الطوق للعاصمة عتق وتوقد واشتعال ثورة ابناء جردان ونصاب وعزان والصعيد وحبان وميفعة ورفضهم ومقاومتهم للمليشيات الأخوانية التي أغرقت المحافظة في حمامات من الدماء وزجت بالمئات لا بل الألاف من مناهضي مشروعها المدمر في سجون سرية كانت في الاصل مقرات ومباني لمؤسسات الدولة، ومن هنا كان لابد من الشرعية ان تلجئ الى تحريك اتفاق الرياض لعلها تخرج بما الوجه قبل ان تتطور الامور ويجعلها ذلك تخرج من المولد بدون حمص كما يقال.
مع ما افرزه التأخير الاول لأتفاق الرياض من نتائج على الارض الشي الذي استدعى راعي الاتفاق في المملكة السعودية لدعوة الاطراف لجولة مباحثات جديدة للتشاور حول تنفيذ السق السياسي وتشكيل حكومة كفاءات مناصفة بين الشمال والجنوب والتوافق لتعيين محافظين للمحافظات الجنوبية وانهاء حالة الانقسام والاحتقان والتدهور الاقتصادي علاوة انكشاف للأجندات التركية التي طفت الى السطح من خلال تدخل الاتراك بصورة مباشرة في احتضان ودعم وتمويل بعض الاطراف التي تمثل الحكومة الشرعية، ومع دعوة الاطراف مجددا لجولة المباحات بدأت التساولات تبرز بين متفاءل متوقع الإنفراجه وبين متشأم متوقع المرحلة الثانية من تأخير الاتفاق..
ومع بدء المباحات وكبادرة حسن نية من المجلس الانتقالي تجاة الأشقاء دعا المجلس الانتقالي ابناء محافظات الجنوبية في المهرة وحضرموت وشبوة لتعليق اي برامج تصعيديه وحث قيادة الإدارة الذاتية في عدن للتريث وتجميد اي قرارات او خطوات كبيرة والاكتفاء بتسيير الامور لإفساح المجال امام جهود الاشقاء في المملكة للدفع بالتنفيذ الفوري والعاجل لأتفاق الرياض وانهاء الازمة الداخلية ومواجهة التحديات والتدخلات الخارجية الايرانية التركية في اليمن وهو ما تم فعلا فتوقف التصعيد في المحافظات الشرقية وأرجت الإدارة الذاتية العديد من خطواتها الكبيرة لعل النوايا تصدق هذه المرة ..
ومع الايام الاولى للجولة الثانية من المباحات توصل الاشقاء الى بعض التفاهمات من ضمنها الاتفاق على رئيس الحكومة الجديدة وبعض محافظي المحافظات بعد جهود طيبة من الاشقاء وكان منتظرا ان يتم اعلان تسمية رئيس الوزراء وتكليفه بالتباحث مع الاطراف المعنية لتشكيل حكومة كفاءات كما نص عليه اتفاق الرياض بالتزامن مع تسمية المحافظين المتوافق عليهم ليشرعوا في مباشرة مهامهم وملئ الفراغ السلطوي الذي خلفه تأخير تنفيذ الاتفاق في الفترة الماضية واعطاء تطمينات للشارع المحتقن وبث مؤشرات ايجابية للاقتصاد المتهالك والتخفيف من معاناة الناس التي انهكتها الازمات القاتلة الا ان ذلك لم يحدث بحجة مواصلة المباحثات للوصول الى تفاهمات لمجمل الاشكاليات يمكنها من استصدار حزمة من القرارات وهو ما يستوجب توفر مساحة اضافية من الزمن للبت في العراقيل المثارة وهنا وعند هذه النقطة تبرز التسأولات، كم من الوقت يتطلب الانتظار وهل الظروف على الارض تسمح بإطالة زمن المباحثات !؟
لم تحذو الحكومة الشرعية حذو الانتقالي كما فعل حين دعا لوقف التصعيد وحث الإدارة الذاتية على التريث في خطواتها وتهيئة الاجواء للمساع السعودية بل فعلت ما هو عكس ذلك تماماً فالخروقات العسكرية ظلت مستمرة كما اوعزت الحكومة لما تبقى لها من هامش من سلطة بخلق الازمات وتسخيرها بما يؤزم الوضع في المناطق الجنوبية كورقة ضغط وابتزاز تمارسها على فريق الانتقالي للقبول بتقديم التنازلات امام العقبات التي ستضعها في طريقه في اعتقاداً منها انها بهذه الطريقة ستطوع المجلس الانتقالي وستدفعه للرضوخ تحت وقع الأزمات ومن بينها قضية مرتبات قوات الامن والجيش التي وجهت خلاله البنك المركزي بالتخلف عن سداد وتغطية مرتباتهم التي وصلت لشهرها الرابع ، فهل تفلح الشرعية في مسعاها وهل موقف البنك المركزي من أزمة مرتبات الجيش والامن منطقي وموضوعي وكيف سيتعامل المجلس مع هذا الوضع؟
اصدر البنك المركزي بيان اوضح فيه دوافع تخلفه عن تغطية مرتبات الامن والجيش مبررا أجراءاته بشحة السيولة النقدية في خزانته وعدم وصول بعض الايرادات اليها في اشارة الى أجراءات الإدارة الذاتية وردا على بيان اللجنة الاقتصادية للإدارة الذاتية التي حملته مسؤولية التخلف عن دفع مرتبات الجيش والامن، طبعا من حق البنك المركزي ان يوضح دوافع تخلفه عن الايفاء بتغطية استحقاقات المرتبات لكن ليس من حقه توظيف مهام البنك لصالح اغراض سياسية وادعاء شحة السيولة النقدية زورا وبهتانا وممارسة الازدواجية في تعاطيه وتعامله مع الوقائع والحقائق المثبته.
البنك الذي انبرى مسارعا في تبرير تخلفه عن سداد المرتبات بحجة توقف وصول بعض ايرادات العاصمة عدن الى خزينته وذهابها لصالح الإدارة الذاتية لم يفعل ذلك الاجراء او يتخذ ذلك الموقف حين تخلفت مارب عن توريد عائداتها للبنك المركزي ولم يخرج حينها البنك ليعلن عن عدم التزامه بسداد المرتبات ان لم تورد مارب المحافظة الغنية بالثروات والايرادات التي سترفد خزينته بالاموال الطائلة بل تماهى مع تعنت مارب التي خرجت عن اطار مفهوم منظومة الدولة واستمر البنك بتغطية المرتبات، بل لم تفعل إدارة البنك موقفا شجاعاً كالذي فعله مدير البنك السابق حافظ معياد حين قدم استقالته على خلفيه رفضه العمل في ظل تخلف مارب عن توريد عائداتها، كما ان حديث البنك عن شحة السيولة كيف يكمن تصديقه في ظل اقرار الموازنة السنوية التقديرية للسيولة النقدية والتي من المفترض ان تغطي نفقات مؤسسات الدولة لمدة عام كامل وماذا عن العملات المطبوعة التي تتدفق تياعا لخزينه البنك وأخرها 280 مليار التي تم نقلها لفرع البنك المركزي بالمكلا .
لماذا هذا الازدواج من البنك وبالذات في هذا التوقيت ؟ الم يكن حريا بإدارة البنك ان تعمد لتسهيل وتمرير مرتبات الجيش للمساهمة في انضاج تنفيذ اتفاق الرياض الذي من شأنه ان تم ان يعيد تنشيط البنك ويرفد خزينته بالأموال وهبات الاشقاء والمانحين وما الذي ستجنيه من تلك الأجراءات وهل تدرك تبعاته وارتداداته وما قد ينتج عنه من خيارات وسيناريوهات.
موقف منتسبي الجيش والأمن كان موقفا واضحا وواعيا ومدركا لحجم الأستغلال والتوظيف لقضية مرتباته ومن هو المستهدف الحقيقي من هذا الاجراء ، فتعاطوا بكل مسئولية وبادروا في لفت انتباه التحالف العربي من خلال اقامه اعتصام امام مقره في العاصمة عدن لأرسال رسالة لقيادته بان هناك من يعمد لعرقلة جهودهم،، وامام هذا الواقع الذي اصبح فيه منتسبي الجيش والامن يواجهون الموت البطئ من خلال المساس بقوت عيشهم بات المجلس الانتقالي مخولا بإتخاذ اي تدابير او خيارات من شانها ان ترفع الظلم عن هذه الشريحة الكادحة التي لازالت تقدم الكثير للوطن رغم الجراح والمعاناة التي تعيشها، فهل تدفع هذه الظروف المجلس الانتقالي لبسط سلطته على البنك المركزي ومن ثم دعوة القوى والمكونات السياسية الجنوبية لتشكيل حكومة جنوبية ، احتمالات كثيرة وسيناريوهات عديدة ستكشف عنها الايام القليلة القادمة، وان غدا لناظره لقريب..