تميز الشاعر الفيلسوف عبد الله البردوني، باستقلاليته الفكرية والسياسية وتحرره من الولاءات والتبعيات السياسية حتى في علاقاته مع من يحبهم ويتعامل معهم بإيجابية وود من الساسة والقادة والمثقفين والادباء، وهذا أحد الأسباب التي جعلته محل حب وتقدير كل، أو لنقل غالبية الناس المتخالفين والمتخاصمين والمتعطافين فيما بينهم.
ولقد تجلت هذه الخاصية الاستقلالية والتميز والتفرد في معظم نتاجه الشعري والادبي والفكري حتى آخر نبضة من قلمه.
على إن هذه الاستقلالية لم تكن قط لتعني الحياد أو السلبية تجاه القضايا المفصلية والمصيرية المتصلة بالحق والباطل، والعدل والظلم، والصدق والزيف وحتى الصواب والخطأ.
٢
كانت واحدة من نتائج زيارتي الأخيرة للعاصمة المصرية القاهرة وزيارة المعرض الدولي للكتاب فيها حصولي على آخر نتاجات البردوني الشعرية وهو عبارة عن كتاب احتوى المجموعتين الشعريتين اللتين كان الزميل الشاعر محمد القعود الرئيس السابق لفرع إتحاد الأدباء والكتاب في صنعاء، قد تحدث عنهما بعد وفاة الشاعر الكبير.
المجموعتان المعنيتان هما
١. “رحلة ابن شاب قرناها”،
ولي ملاحظة على العنوان سأتعرض لها لاحقا.
٢. العشق في مرافئ القمر.
وفي الحقيقة إنني ومنذ العام ٢٠٠٠م بعيد وفاة الفقيد الشاعر الكبير وإنا أتطلع لصدور المجموعتين لتكملة ما في مكتبتي من ديوان البردوني العظيم.
وأخيرا ها قد حصلت عليهما في بلاد النزوح بعد أن تعذر ذلك في الوطن المفترض.
ملاحظتي على تسمية المجموعة الأولى تتلخص في نقطتين
١. منذ البدء كان الحديث يدور عن عنوان هو “رحلة ابن من شاب قرناها” والتسمية هنا منطقية وسليمة جراماتيكيا ومعنىً ومضموناً،
٢. ومن هنا تأتي الملاحظة، فتسمية “رحلة ابن شاب قرناها” لا تستقيم فضمير المؤنث الغائب في كلمة قرناها التي تدل على الفاعل للفعل الماضي”شابَ”، لا يوجد ما يوحي إلى صاحبها، فلا يمكن أن يكون عائدا على ابن، لأنه مذكر والمذكر يأتي ضميره مذكراً، ولا هو عائد على الرحلة لأن الإبن ليس ابن الرحلة.
ومع ذلك فإن المجموعة تسير في كل نصوصها على مسار المدرسة البردونية المنسجمة مع نفسها والمتسقة مع نهج صاحبها فكرا وفلسفةً واسلوباً وموقفاً، ولم تخرج عما اعتدنا عليه من هذا الشاعر الاستثنائي في تسخير التساؤل والمجاز والتورية وفنيات الاشتقاق ونحت المفردات الجديدة، تسخير كل هذا لنقد ظواهر الاختلال والاستياء من مظاهر الاعوجاج، ورفض الظلم والتعاطف مع الضحية وذلك على الطريقة البردونية التي لم يسبقه إليها أحد
يستهل الشاعر الفيلسوف مجموعته الأولى بقصيدة عنونها ” صيف ٩٤” والعنوان وحده يكفي للدلالة على ما بين أولى كلمات النص وخاتمه.
لكن متن النص الذي سنتوقف عنده في وقفة قادمة.
يستهل الشاعر الكبير ديوانه وقصيدته بالتساؤل:
لماذا على زنديه من خصره ارتمى؟
هل القتل حباً من قوى الموت محتمى؟.
ليواصل في مستهل المقطع الثاني:
لماذا الذي ادعوه بيتي إذا سها
وأحدث عرساً مدَّ عشرين مأتما؟
ويستمر تدفق سيل الأسئلة الهاطلة كالمطر من وجدان الشاعر وروحه الرافضة حتى نهاية النص.
وهذه الأسئلة أو التساؤلات ليست ذات معنى استفهامي، بل إنها تحمل مدلولاً استنكاريا وأعتراضيا كما يقول البلاغيون
ولنا أن نتخيل إلى أين يقودنا هذا النص بتساؤلاته المحيرة واستفساراته الصاخبة، مما سنتناوله في وقفة قادمة.
فإلى اللقاء