لماذا "المليشيات الانفصالية الجنوبية"

لماذا "المليشيات الانفصالية الجنوبية"

قبل 11 شهر

تعود القضايا المطروحة في هذا المنشور إلى حوار دار منذ أشهُرَ بيني وبين صديق من المعترضين على مراجعة تجربة وحدة عام 1990 الموؤودة والفاشلة، والرافضين لمشروع المجلس الانتقالي الجنوبي المنادي بالعودة إلى نظام الدولتين الشقيقتين الجارتين المتعاونتين، وفقاً لحدود ما قبل 22 مايو 1990م.

 

صديقي يتحدث عن الخطر الذي يشكله المجلس الانتقالي الجنوبي ومشروعه على "الوحدة اليمنية"، باعتباره (أي المجلس الانتقالي) لا يتردد عن المجاهرة بمطالبته باستعادة الدولة الجنوبية، وباعتباره يقود مليشيات انفصالية خارج سلطة الدولة الرسمية ووزراتي الدفاع والداخلية فيها.

 

هذه العينة من المثقفين والسياسيين ما تزال تنتشر على نطاق واسع في صفوف النخبة السياسية الشمالية، ومعهم بعض الجنوبيين حتى بين أولائك الذين لم يستفيدوا من حرب غزو الجنوب عام 1994م، ومنهم بعض المتضررين من هذه الحرب، ممن تعرضوا للإقصاء والملاحقة والتنكيل والحرمان ومختلف أشكال التمييز وبعضهم تعرضت أملاكهم وحقوقهم للسلب والنهب.

 

ويمكنني تصنيف أصحاب هذه المواقف إلى صنفين هما:

 

* بعض الأيديولوجيين الذين يتمسكون، بـ"الدغما" السياسية كما استظهروها في فترة المراهقة السياسية في السبعينات والثمانينات، وما يزالون يعتقدون أنها صالحة في كل زمان ومكان، كما كان يقال لهم وكما يتردد دائما عن الأيديولوجيات الشمولية التي لا يرى أصحابها الحقيقة إلا في ما يعتقدونه ، حتى لو برهنت الأيام خطله، وحتى لم تغيرت معطيات الواقع واختلفت الظروف وذوت وضمرت واندثرت عوامل صلاحية أيديولوجياتهم.

 

* بعض الساسة الذين يغَيِّرون مواقفهم تبعاً للتَغَيُّر في موازين القوى السياسية، فإذا ما انتصر اليسار فهم يساريون، وعلى يسار اليسار، وإذا ما وجد مصلحة مع أقصى اليمين فسيذهب إلى هذا اليمين الأقصى، وإذا ما فاز دعاة "الوحدة" فهو في قمة الوحدوية، أما إذا فاز "الانفصال" فهو انفصاليٌ حتى العظم، ولو وجد مصلحة مع الحوثيين أو مع داعش فسيذهب، وهذا النوع من السياسيين لا يمكن الرهان على أي دور بنَّاء يمكن أن يقدموه ولو حتى لتعزيز المشروع الذي يدّعون الدفاع عنه.

 

أمثال صديقي هذا كثيرون من الطبقة السياسية الشمالية، ومعهم كما قلت بعض الجنوبيين، وشخصياً خضت نقاشاتٍ مطوَّلةً مع الكثيرين منهم، وليست مهمتي إقناعهم بما أؤمن به أو إجبارهم على التخلي عن قناعاتهم، ومعتقداتهم، الخاطئة، أو ما يعتقدونها صائبة.

 

كل الذين ينتقدون المشروع الوطني التحرري الجنوبي، ويلعنون المجلس الانتقالي الجنوبي، ويعلنون تمسكهم بــ"الوحدة اليمنية" ورفضهم لــ"تقسيم اليمن"، كل هؤلاء يتمسكون بأوهام وشعارات خرقاء متعالية عن الواقع مجافية للوقائع، لكنهم يتنكرون أو ينكرون الحقائق الماثلة أمام كل ذي عينين، وعندما نتحدث عن "الأوهام" و"الشعارات الخرقاء" إنما ننطلق من الحقائق والمعطيات والبديهيات التالية:

 

إن الـ"وحدة اليمنية" التي يتحدثون عنها كانت موجودة ذات زمن، وبالمناسبة هي كانت موجودة حتى قبل 1990م وقبل اتفاق 30 نوفمبر 1989م، نعم كانت موجودة في وجدان المواطنين البسطاء مثلما في عقول ومقاصد وتطلعات المناضلين الوطنيين الشرفاء في الجمهوريتين اللتين اتحدتا عشوائياً في مايو من العام 1990م.

 

لكن ما جرى في العام 1990م، وما تلاها من أحداث انتهت بغزو الجنوب وتشريد أهله ونهب خيراته وممارسة صنوف التنكيل والقمع تجاه مواطنيه ومناضليه على السواء، قد قضى على تلك الوحدة (الحلم) وحولها بالنسبة للجنوبيين إلى كابوس مرعب، وإلى عذابات ابتدت يوم 23 مايو ولم تتوقف حتى اللحظة، وإذا ما كان هناك من يعتقد أن ما جرى بعد العام 1994م، بما في ذلك القتل العمدي للمحتجين سلمياً وملاحقة واختطاف المثقفين والناشطين المدنيين الجنوبيين وتلفيق الاتهامات الباطلة ضدهم، إذا كان هناك من يحسب هذا "وحدة يمنية"، فهو يعيش الوهم في أنصع صوره، وهي حالة أقرب إلى المرض النفسي منها إلى السلوك السياسي أو التضليل الإعلامي، ومن يدافع عن هذه "الوحدة اليمينة" إنما يدافع عن وهم لا وجود له إلَّا في رأسه ومخيلته ورؤوس ومخيلات أمثاله، وليس بوسعنا إلا أن ندعو له بالشفاء من هذه المرض.

 

إن الذين يعبرون عن رفضهم لما يسمونه بــ"تمزيق اليمن" إنما يتحدثون عن صورة فانتازية لا وجود لها إلا في رؤوسهم، فهم يعيشون وهماً فحواه أن اليمن لم تتمزق بعد، ويتصورون أن هناك تمزيقاً لليمن يختلف عن التمزيق الذي يعيشه اليمنيون اليوم.

 

إننا نتحدث عن يمنٍ "مُتَخُيَّلٍ" "افتراضيٍ" هو غير موجود على الواقع: وهو موجود في خيال وأحلام وأوهام هؤلاء، أما اليمن الحقيقية فلم يعد لها وجودٌ إلا في سجلات التاريخ، ولا توجد إلا اليمن الجغرافية التي تحدَّث عنها المستشرقون والمؤرخون والجغرافيون، والتي يعنون بها كل الأراضي التي تقع جنوبي الكعبة، أما اليمن السياسية فقد حددها مؤسس المملكة المتوكلية الهاشمية، وهي ذلك النطاق الجغرافي الذي عُرِفَ لاحقاً بــ"الجمهورية العربية اليمنية" ويتمثل في تلك المساحات التي يحكمها اليوم ورثة بيت حميد الدين ممثلون بالجماعة الحوثية وحلفائها وأتباعها، من القناديل والزنابيل.

 

ولقد كان السبتمبريون في العام 1962م دقيقين ومحددين حينما سمَّوا جمهورية سبتمبر بــ"الجمهورية العربية اليمنية" وليس "الجمهورية العربية الشمالية اليمنية"، لأنهم كانوا مقتنعين بأنهم سيحكمون كل اليمن السياسية التي ورثوها من حكم آل حميد الدين.

 

ويطول الحديث عمَّا يسمونه ب"المليشيات الانفصالية الجنوبية"، لكن هناك مجموعة من الحقائق التي يغفلها كل الذين يتحدثون بغلٍّ وعدائية تجاه ما يسميه الجنوبيون بـ"القوات المسلحة وقوات الأمن" الجنوبيتين، وأهم هذه الحقائق:لقد ظل الجنوبيون مستبعدين من القوات المسلحة وجميع أجهزة الأمن اليمنية المختلفة، باستثناء قلة قليلة ممن تم استبقاؤهم من أبناء الجنوب بعد حرب الغزو والاحتلال، لاعتبارات خاصة بالقوات المنتصرة، وما لبث هؤلاء المنتصرون إن استغنوا عن هذا العدد القليل من هؤلاء، وبمقابل ذلك لا يزيد عدد الذين دخلوا المعاهد والكليات العسكرية والأمنية اليمنية عن أصابع اليدين والرجلين، وفي أحسن الأحوال ضعف عدد هذه الأصابع على مدى ربع قرن منذ اجتياح 1994م.ويعلم كل ذي عينين وأذنين أن القوات الجنوبية (الأمنية والدفاعية) تتكون في الغالب الأعمّ من الشباب الذين انخرطوا في حرب الدفاع عن الجنوب في العام 2015م وتمكنوا من إلحاق الهزيمة بالتحالف الحوثي-العفاشي، مثلما تمكنوا من مواجهة جماعات القاعدة وداعش الإرهابيتين في عدن وأبين وشبوة وحضرموت، بعد أن أسقطت بعض هذه المحافظات وأوشكت أن تسقط البعض الآخر تحت قبضتها.أما عن "الجيش الوطني" ووزارتي "الدفاع والأمن" الشرعيتين، التي يتحدث عنها هؤلاءِ فالكل يعلم كيف سلَّمت تلك القوات صنعاء وعمران وبقية محافظات الشمال للجماعة الحوثية دون طلقة رصاص واحدة، وكيف باعت هذه القوات معسكراتها ومخازنها وأمتعتها وعتادها للجماعة الحوثية في محافظات صنعاء ومأرب والبيضاء والجوف، وفي مديريات شبوة الثلاث، (عين وبيحان وعسيلان)، وحينما عجز ذلك "الجيش الوطني" عن تحرير هذه المديريات طوال ستة أشهر من احتلالها من قبل الجماعة الحوثية، اضطرَّت القيادة "الشرعية" إلى استدعاء قوات العمالقة الجنوبية التي هزمت القوات الحوثية خلال أقل من إسبوعين.أما وزارتا الدفاع والداخلية اللتان يراد للقوات الجنوبية أن تنظوي تحت لوائهما، فلسنا بحاجة إلى التذكير أنه وفي ظل هاتين الوزارتين حقق "الجيش والأمن الوطنيان" سلسلة الهزائم والتراجعات على مدى تسع سنوات من الحروب "الوهمية" تسببت في إنهاك ميزانية دول التحالف العربي ووصول مدفعيات وصواريخ القوات الحوثية إلى عواصمهما وبعض مرافقهما الحيوية، والسقوط التقريبي لمعظم محافظات الجنوب بأيدي جماعات داعش والقاعدة الإرهابيتين.

 

وقبل أن ينبري من سيقول أن الكثير من السلبيات والأخطاء والمخالفات التي تقع فيها بعض قيادات المجلس الانتقالي وبعض القوات الجنوبية التي يسمونها بــ"لمليشيات الانفصالية" أعترف بأنني قد تعرضت لتلك السلبيات وطالبت مثل الكثيرين غيري من الكتاب والمفكرين والمثقفين الجنوبيين، بإعادة تأهيل تلك القوات مهنياً وتربوياً وإخلاقياًوإعادة هيكلتها من خلال تزمين بقاء القيادات في مواقعها وتدوير المناصب القيادية، ومحاسبة المقصرين ومن يرتكبون الأخطاء (المقصودة وغير المقصودة) حتى يستطيع المدافعون عن هذه التجربة مواجهة من يقتنصون تلك الأخطاء والنواقص للتحريض ضد القيادة السياسية الجنوبية، وضد القوات المسلحة وقوات الأمن الجنوبية ولتغدو تلك القوات نواة حقيقية لجيشٍ جنوبي لا يدين بالولاء إلا لله والوطن والشعب الجنوبي الأبي.

 

التعليقات

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر