قصة شهيد ...ولد .. ورحل .. في أتون حربين

قصة شهيد ...ولد .. ورحل .. في أتون حربين

قبل 9 سنوات
قصة شهيد ...ولد .. ورحل .. في أتون حربين

الشهيد احمد الحسني

 كتبت /ابتهال الصالحي (عدن)

من رحم الحرب ولد، وفي أتون الحرب غادر، هكذا سيكتب على قبر أحمد الذي ولد من رحم الحرب على عدن في 94، وسقط بين رحى حرب في 2015.

المكان عدن، المنطقة الشيخ عثمان جولة السفينة، الزمان الأربعاء 8 من أبريل من العام الجاري، الساعة الحادية عشرة صباحاً، سقط أحمد الشاب الوسيم ذو الواحد والعشرين ربيعاً، بعد أن أصابته رصاصة القناص الغادر القادم من أقصى الشمال، ليخطف زينة شباب الحي

أحمد حيدرة الحسني، الولد الأصغر من خمسة إخوة، ولدين وثلاث بنات، ورغم سنه الصغيرة فإنه ومنذ اليوم الأول للعدوان على عدن كان برفقة شباب المقاومة الذين تجمعوا بشكل عفوي للدفاع عن المدينة، وعلى الرغم من أن الكثير منهم لم يكن يمتلك السلاح كشهيدنا البطل، حيث كان أحمد يتناوب هو وزملاؤه على قطعة واحدة من سلاح الكلاشنكوف.

شهيدنا أحمد الذي اعتاد أن يجلب وجبة الغداء لبقية الشباب المرابط في جولة السفينة، والتي شهدت أشرس المعارك، وراح ضحيتها زينة شباب عدن، والتي كانت رصاصات القناصة لها الحظ الأوفر منهم، فحسب شهادات الأهالي عشرات الشباب سقطوا قنصاً.

في صبيحة ذلك اليوم استيقظ مبكراً، وتناول وجبة الإفطار، وقبّل أمه، وطلب منها الدعاء له ولزملائه، واعداً إياها أنه سيحضر في الظهيرة، ليحمل الغذاء لزملائه في الميدان مثل كل يوم، كان الدور الأبرز لأحمد، غير حمل الطعام من منزله، والذي تقوم والدته بإعداده لبقية شباب المقاومة في كل يوم، مهمة إجلاء وإسعاف الجرحى من الميدان إلى المستشفى القريب، في ذاك الصباح نقل جريحين من زملائه أحدهم ابن عمه، وفي محاولته الثالثة لإنقاذ أحد الشباب الذي أصيب برصاصة قناص كانت أعين الشر ترصده، حيث استهدفه هو أيضاً برصاصة اخترقت الجانب الأيمن من ظهره لتستقر في أحشائه ليسقط بجانب الجريح الذي كان يحاول إنقاذه، وفي عجز تام عن الوصول إليه ظل ينزف وهو يردد الشهادتين والقناص يستمتع بالمنظر، منتظراً ضحية ثالثه تحاول إنقاذهما ليرديه قتيلاً هو الآخر، لكن أحداً لم يتقدم.. ظل شهيدنا ينزف ويردد الشهادتين حتى فارقت روحه الطاهرة الجسد..

بعد قرابة الساعتين استطاع الشباب انتشال جثمانه الطاهر، وفي محاولة يائسة منهم ذهبوا به إلى المستشفى القريب الذي كان يسعف أحمد رفاقه فيه، عندما رأته الممرضة انهارت هي أيضاً باكية وغير مصدقة أن الشاب الذي طالما تردد عليها، وهو حامل بين يديه الفتيتين أصدقاءه الجرحى، يُحمل هو الآن، ولكنه للأسف كان قد فارق الحياة.

وما زالت تحلم برؤياه في المنام

أم الشهيد، التي لم تكف دموعها منذ لحظة الفراق، والتي لا تزال تلبس ثياب الحداد على زوجها الراحل، تحتضن كل ليلة قميصاً وصورة لأحمد، علها تلتقيه مجدداً في المنام، «رحيل أحمد كسر ظهري»، هكذا تقول. كيف لا وأحمد الابن الأصغر، والذي كان لا يعصي لها أمراً، ولا يرد لها طلباً، كانت أمانيها لأحمد كثيرة، ولكن عدو الحياة حرمها من تلك الأمنيات.

تقول الأم المكلومة على صغيرها: «كان صوته جميلاً وكان يلح عليّ بأن أشتري له جيتاراً، وبالفعل اشتريت له الجيتار، ولكن الحرب بدأت فترك الجيتار جانباً ليلتحق بأصدقائه في جبهات القتال، على الرغم من أنه لم يحمل سلاحاً من قبل».

رفضت أم أحمد مغادرة المنزل رغم القصف المستمر على الحي، كانت تنتظر أن يدق فلذة كبدها عليها الباب ذات مساء، ولكنه لم يفعل، عندها تدهورت حالتها الصحية والنفسية كثيراً، مما اضطرها إلى الانتقال هي ومن تبقى من أبنائها إلى محافظة أبين المجاورة، وما إن انتهت الحرب وتحررت عدن حتى عادت إلى البيت، ولكنه كما تقول أصبح موحشاً وكئيباً بغياب أحمد عنه.

حرموني من وداعه

ليزا أخته الكبرى، والتي لم تكن في المدينة عندما قامت الحرب، وعندما استشهد أحمد، لم تتمكن من إلقاء النظرة الأخيرة على أخيها الأصغر تقول: «تمنيت أن أقبله قبلة الوداع، ولكن أعداء الحياة حرموني منها، فبسبب الوضع الأمني المتدهور وإغلاق كل المنافذ البرية لعدن لم أتمكن من القدوم إليهم، وأيضاً بسبب تدهور المستشفيات وانقطاع الكهرباء المتكرر وامتلاء ثلاجات الموتى بالقتلى لم يستطيعوا تأخير دفن أخي إلى اليوم التالي لأتمكن من زيارته». شعرت بروحها تتمزق وهي تسترجع هذه الذكريات، وتبتلع لوعتها لعدم قدرتها على أن تلقي على أخيها نظرة وداع أخيرة مع غصة كبيرة ومريرة لم تستطع بعدها الحديث.

لينا الأخت الوحيدة التي ودعت أحمد

كثيرة هي المواقف التي تسكن ذاكرتي عن أخي الشهيد أحمد أحاول استرجاعها منذ طفولته، حيث كان محباً لفعل الخير ومساعدة من يحتاج إليه، دون الاهتمام بنفسه وسلامته. تتذكر لينا «في الصف الأول الابتدائي عاد أحمد إلى البيت ورأسه مجروح وملفوف بالضمادات مما أفزعنا وسألناه عن من آذاه، لكنه ضحك وأخبرنا أنه حاول إنقاذ صديقه في الفصل الذي كان سيقع على الأرض، فصرخت أمي عليه لماذا خاطرت بنفسك؟ فأجابها: «حرام كان رأسه باينكسر»! تقول لينا على الرغم من أنه طفل في الثامنة فلم يهتم بأن يتعرض للأذى في سبيل إنقاذ صديقه، والذي كان نتيجته علامة في رأسه تشهد لإنسانيته وحبه للآخرين.

ظل أحمد على هذا المنوال يساعد الكل، وحتى قبل أسبوع من استشهاده عندما نشرت أنا على صفحتي في الفيس بوك استغاثة من أحد أصدقاء أحمد، والذي كان محاصراً في منزله ويعاني من مرض بدأ في الانتشار بجسده، ولم يكن يستطيع الأكل والشرب وليس لديه أحد لإسعافه خاصة أنه يسكن في منطقة الاشتباكات. تضيف لينا إنها هدفت بنداء الاستغاثة هذا أن يلبي النداء من هم في نفس المنطقة أو فرق الصليب الأحمر، ولكن للأسف لم يجِب أحد النداء. حينها أخذ أحمد السيارة، وحاول الذهاب برغم ممانعة أمي وصراخها، ولكنه لم يقبل بالبقاء وترْك صديقه يموت وحيداً مما أجبر أمي على الذهاب معه، كان ذلك في يوم جمعة، وفي وقت الظهيرة كانت المدينة خاوية مثل مدينة الأشباح، فلا توجد مستشفيات، ولا أحد في الشارع، فقط أصوات الاشتباكات والرصاص ورائحة الموت تخيم على المكان، في الطريق تعرضوا لإطلاق نار على السيارة، ولكن هذا لم يمنعه من أخذ صديقه وإسعافه إلى مستشفى قريب منا والبقاء معه حتى وقت متأخر كي يستطيع إعادته لمنزله مرة أخرى وفي نفس الظروف الخطرة في المنطقة.

كثيراً ما كنا نفسر تصرفاته هذه منذ صغره أنها طيبة وغباء، لكن الإنسانية كانت مغروسة في قلبه حتى يوم استشهاده قتلوه منقذاً ومسعفاً وإنساناً.

أحمد لم يمت، فهو حي في قلوب كل من عرفوه، يكفي أن تقول أحمد الحسني ابن حي «عمر المختار» لتسمع من كل أهالي الحي أجمل العبارات وأطيبها عنه، أحمد لم يمُت فهو يعيش حولنا في كل الذكريات الجميلة التي تركها هو ورفاقه الشباب من أبناء هذه المدينة الطيبة الصامدة صمود جبل شمسان الضارب في عنان السماء، كانت عبارة أحمد الأخيرة، والتي طالما رددها «إذا كنتم تبحثون عن دروس في فن الرجولة فعدن ترحب بكم».

قد نشعر بالحزن على أشياء فقدناها، لكن حزن أحمد مختلف، ثمة حزنٌ يصبح معه البكاء مبتذلاً وكأنه إهانة لمن نبكيه! فلِمَ البكاء ما دام الذين يذهبون يأخذون دائماً مساحة منّا، دون أن يدركوا هناك، حيث هم، أننا موتى بعدهم لنصبح أولى منهم بالرثاء.

نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية.

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر