القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم (2)

القضية الجنوبية ومعضلة الخط المستقيم (2)

قبل سنة

في البدء لا بد من المزيد من الإيضاح لمفهوم "البدائل" الذي تحدثت عنه في الحلقة السابقة حيث اتضح لي أن الكثير من المتابعين يخلطون بين مفهم البديل ( وهو الترجمة العربية للمفهوم اللاتيني Alternative  أو Option  الذي يعني الخيار)  والذي يستخدم في اللغة السياسية للتعبير عن اختيار إحدى الطرق أو الوسائل أو الأدوات أو التكتيكات  السياسية في مسار قضية من القضايا، وبين الاستبدال الذي يعني الحذف أو التخلي عن وسيلة من الوسائل واختيار سواها.

وكما أوضحت في سياق المناقشات مع الزملاء المعلقين على المنشور السابق أن قضيتنا الجنوبية تتداخل في التأثير عليها مجموعة من العناصر والمؤثرات الداخلية والخارجية، الذاتية والموضوعية، وهو ما يستدعي تعدد الخيارات والبحث في البدائل والوسائل الموصلة إلى الغاية التي من أجلها قدم شعبنا خيرة أبنائه وبناته، وهي "استعادة الدولة الجنوبية" بحدودها الدولية المعروفة ليلة 21 مايو 1990م.

لقد كانت الفعاليات الاحتجاجية السلمية هي البديل الناجع والمُفَضَّل في مطلع وخلال سنوات ثورة الحراك السلمي الجنوبي، خلال الأعوام 2007 – 2014م وقد حقَّقَ هذا الخيار نتائج مذهلة رغم فداحة الثمن وجسامة التضحيات، وهذه النتائج لا يدرك قيمتها إلا من تابع ردود أفعال السلطة وما أصابها من الهلع والذعر عندما كانت الفعالية تخرج بمئات الآلاف معبرةً عن رفضها لاستمرار سياسات حرب 7/7 الظالمة ونتائجها المأساوية على الجنوب والجنوبيين.

وعندما جاءت الغزوة الثانية في العام 2015م حينما سلم غزاة 1994م الأمر في الجنوب لشركائهم الجُدُد-الحوثيين صارت المواجهة المسلحة هي البديل الأجدى والأكثر فاعلية، وقد حقق هذا البديل ما حقق من نتائج محمودة يعلمها القاصي والداني، بغض النظر عن المنعرجات التي تعرضت لها مسيرة الثورة الجنوبية بعد ذلك، بفعل مؤثرات عديدة ليس هذا مجال الحديث عن تفاصيلها.

وبعد قيام المجلس الانتقالي الجنوبي والدخول في مفاوضات الرياض وتوقيع اتفاق الرياض 2019م ثم مشاورات الرياض 2022م أصبح الحوار السياسي والشراكة السياسية خياراً مطروحاً على الطاولة كبديل جديد لم يسبق لقيادة الثورة الجنوبية تجريبه والتمرُّس على متطلباته وتعقيداته، لكن كل هذه البدائل بحاجة إلى إعادة مراجعة ودراسة للجدوى وتحليل وتقييم مواطن النجاح ونقاط الضعف والفشل.

 وهكذا فإن الحياة السياسية وعلاقات القوى السياسية المختلفة لا تعرف الثبات والتمسك بالبديل الواحد الأوحد، ولا تصلح معها نظرية "الخط المستقيم" نظراً لتعقيدات الحياة وتعدد العناصر والعوامل المتداخلة ودخول مؤثرات جديدة مع كل منعطف تمر به الحياة السياسية وهو الأمر الذي يضاعف من تعقيد القضية وجعل تعدد البدائل أمراً شبه إجباريٍ كما قلنا.

إن القضية الجنوبية تمر اليوم  بمرحلة دقيقة وحساسة، وأكاد أقول خطيرة وحرجة نظراً لما يحيط بها من المؤامرات والمكائد التي يتقن خصوم القضية صناعتها وتنفيذها، فبرغم النجاحات التي حققتها والأشواط التي قطعتها قضيتنا وقواها السياسية وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي، فإنه كلما تقدمت القضية بخطواتها نحو الهدف المنشود، كلما ازداد المتكالبون حولها شراسةً وغيضا وسعياً للانقضاض عليها.

 وفي هذا السياق تأتي محاولة تفكيك الطبقة السياسية الجنوبية ودق الأسافين بين صفوفها حتى لا تصمد الجبهة الداخلية الجنوبية أمام المخططات التي يجري إعدادها وتنفيذها على أرض الجنوب.

كما إن حرب الخدمات وسياسات التجويع التي تنفذها حكومة معين عبد الملك ضد الشعب الجنوبي ليست ببعيدة عن هذا الاستهداف لشعب الجنوب وقضيته العادلة، من خلال وضع الشعب الجنوبي أمام خيارين أحلاهما مُرٌّ: إما التمسك بمطلب الجنوبيين في استعادة دولتهم وبالتالي تحمل  نتائج سياسات التجويع وحرب الخدمات وتجرُّع مآسيها الكارثية.

وإما التنازل عن هذه القضية وستتم مراجعة هذه السياسات وربما حصل بعض الضحايا على بعض الحقوق، التي هي أصلا قانونية ولا تستدعي إضراباً أو اعتصاماً أو عرضاً على المنظمات الحقوقية والإنسانية ولا ينبغي أن تخضع للمساومات السياسية.

إن الشراكة الجنوبية مع الشرعية اليمنية النازح قادتها وأفرادها من ديارهم، هي شراكة مختلة، تقوم على معطيين غير متكافئين: الجنوب قدم الأرض المحررة والثروة والحاضنة الجماهيرية على طول 375 ألف كيلو متر مربع، بثرواتها ومواردها ومنافذها البحرية والجوية والبرية، مع عشرات الآلاف من الشهداء الذين حرروا الأرض ونظفوها من أنصار إيران وحلفائهم ومن الجماعات الإرهابية، وبالمقابل جاء الأشقاء الشماليين بملابسهم فقط ليحكموا هذا الشعب وأرضه وثرواته ومقدراته ويتحكموا في مستقبل أبنائه، دون أن يقدموا قطرة دم واحدة في مواجهة مشروع الغزو، ولا في مواجهة داعي وأخواتها بل أن هناك من كان شريكاً للغزاة أثناء حرب 2015م وهذه المعادلة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن هؤلاء الوافدين الحاكمين هم رواد وتلاميذ مدرسة 1994م التي غزت الجنوب ودمرت دولته وفعلت بالجنوب وأبنائه ما فعلت على مدى ثلاثة عقود متواصلة.

وهكذا فإن التمسك بمخرجات مشاورات الرياض وقبلها باتفاق الرياض تمثل سياسة الخطِّ المستقيم الذي من المستحيل أن يكون وحدهُ طريقاً مضموناً للسلام والأمان والإنقاذ ناهيك عن أن يكون وسيلةً لحل القضية الجنوبية بما يلبي تطلعات الشعب الجنوبي وهي تطلعات يرفض الاعتراف بها  كل الشركاء من الأشقاء الشماليين.

إن التجربة التاريخية مع الأشقاء الشماليين منذ زمن القاضي عبد الرحمن الإرياني تقول لنا أن الأشقاء يتعاملون بسياسات البدائل المتعددة، فهم إذ يوقعون على العهود والمواثيق والاتفاقيات، حتى وهي تصب في صالحهم، إنما يمضون في تنفيذ أجنداتهم غير المعلنة، وهذا الديدن صاحب كل الاتفاقات معهم منذ اتفاقية القاهرة وبيان طرابلس، مروراً باتفاق الكويت عام 1979م، وفترة قيام ونشاط المجلس اليمني 1980-1984م حتى اتفاقية 30 نوفمبر 1989م وبيان 22 مايو 1990م، ولن أتحدث عن وثيقة العهد والاتفاق في فبراير 1994م التي وقعوها ثم انصرفوا للإعداد لغزو الجنوب، وبعد ذلك قالوا فيها أكثر مما قال مالكٌ في الخمر.

لن أدخل في تقييم السياسات الجنوبية خلال فترة ما قبل 1990م فلدي مشروع كتاب عن هذه الفترة ما يزال قيد الإعداد وسيتضمن من التفاصيل الكثير، لكن يبدو لي أن القادة الجنوبيين كانوا يدركون لعبة الأشقاء الشماليين بوجود خطتين: في ما يسمى بالخطة (أ) المعلنة،  والخطة (ب) غير المعلنة لكنها هي التي يجري العمل على تنفيذها، ولذلك كانت القيادة الجنوبية تضع الخطط الاحتياطية للحيلولة دون بلوغ مرامي الخطة (ب)، بيد إن اتفاقية 1989م كانت المدخل للكارثة، وجاء بيان 22 مايو ليستكمل سيناريو الكارثة، فقد مضت الوثيقتان على طريقة الخط المستقيم الذي لا بديل له، ولا قابلية فيه للمراجعة والتقييم. . . . فلم تضع القيادة الجنوبية ولو افتراضاً لوجود خطة بديلة لدى الطرف الآخر بينما كان الأشقاء يعدون لتنفيذ الخطة (ب) وبتعليق أحد الزملاء كانت هناك الخطط (ج)، و(د) وربما (هـ)و(و) و(ز) .  .  . وبعد ذلك كان ما كان.

ولست هنا بصدد إدانة أحد أو الإشادة بأحد فالأمر سيقول فيه التاريخ كلمته حينما تحين لحظة الإنصات والإنصاف.

وما أردت قوله هنا، إن اعتبار المواثيق والاتفاقات بين الجنوب والشمال هي الخيار الاوحد، مع طرف سياسي يقول ما لا يفعل، ويفعل عكس ما يقول، إنما هي استنساخ أعمى لنظرية الخط المستقيم.

أعتقد أن على القيادة الجنوبية وهي تتمسك بنصوص الاتفاقات والمعاهدات، أن لا تنسى التجربة التاريخية المُرَّة مع الأشقاء، وأن يكون لديها أكثر من خطة غير الخطة (أ)، فلتكن الخطط (ب) و (ج) أو حتى (د) و (ه)  و (و) نظراً لأن الطرف الآخر قد بنى خططه وشرع في تنفيذ بعضها، فما الذي يمنعنا نحن الجنوبيين من تبني خططنا الاحتياطية؟

ذلك ما ساتوقف عنده لاحقاً.

والله اعلم.

التعليقات

الأكثر قراءة

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر