لا تعني الفكاهة سوى أن نضحك ونبتهج، علماً أن الضحك في المخيال العربي العام هو "شر البليّة"؛ وما يزال العربي يدعو "خير اللهم اجعله خيراً"، كلما أتيحت له فرصة كي يضحك، في ظلّ ركام من المبكيات.
غير أن المسرح الفكاهي في السياق الجزائري، انبثق من المعاناة، وانشغل بمواجهة الفكر الاستعماري، ومن بعده الفكر السياسي السائد، وانتعش من خلال النقد الذي مارسه روّاده.
جحا الطبيب الجرّاح
استدعى المخرج رشيد سلالي الملقّب بـ "علالو" (1902-1992)، شخصية جحا عام 1926، لكن بتعديلات جوهرية عما عرفها المخيال الشرقي، إذ جعله طبيباً جرّاحاً، يعالج ابن السلطان، بإلحاح من زوجته "حيلة" كي تتخلص منه.
وعلى الرغم من أن جحا ليس طبيباً مختصّاً، لكن العملية التي أجراها لابن السلطان نجحت، تماماً كما نجح العرض شعبياً، واستمرّ لفترة من الزمن، في قاعة "المسرح الجديد" بالعاصمة، واتسع لألف مشاهد.
ورد في مذكرات عرّاب المسرح الجزائري في القرن العشرين، محي الدين بشطرزي: "لم أنتبه إلى أن تلك النكتة التي تضمّنها عرض "جحا" للمسرحي علّالو، ستُحدث انقلاباً في المسرح الجزائري. لقد ولد مسرحنا من رحمها".
لاحقاً بعد الاستقلال الوطني، مطلع ستينيات القرن العشرين، استرجع مسرحيون في الجزائر شخصية جحا، منهم كاتب ياسين في "مسحوق الذكاء"، وامحمّد بن قطاف في "جحا والناس"، والشريف الأدرع في "جحا"، وحسن بوبريوة في "محاكمة جحا".
واستفحلت هذه الشخصية على مستوى النكتة الشعبية، التي كانت تقوم على ثنائية ذكاء "جحا العربي"، وغباء "جحا الفرنسي"، إذ خرج الجزائري من ثورة التحرير بروح متفوّقة وساخرة من الفرنسيين.
شابلن الجزائر
في مقابل المسرح التربوي الذي انتعش في مدارس الإصلاحيين، استطاع المسرح الفكاهي أن يتكرّس بصفته الحساسية المسرحية، لجهة عدد العروض والانتشار في الأوساط الشعبية.
وتميّز رشيد قسنطيني (1887-1944) بروح مرحة، فكان في طليعة المسرحيين الفكاهيين، الذين تحوّلوا إلى ظاهرة شعبية حتى بعد رحيلهم، ولقّبه كاتب ياسين بـ"شابلن الجزائر".
تضمّنت مسرحيات رشيد قسنطيني التي قاربت العشرين، بين تأليف وتمثيل، ومنها "العهد الوفي"، "بني كوجو"، "بابا قدّور"، "الطمّاع"، جرعات من النقد الاجتماعي، على الرغم من روحها الفكاهية، في مسعى لتوعية الجزائريين، ولفت انتباههم إلى ضرورة الثورة على أمراضهم، تمهيداً للثورة على الاحتلال الفرنسي، الذي منع أحد عروض قسنطيني عام 1940.
بعدها تراجع المسرح الفكاهي الجزائري خلال ثورة التحرير (1954-1962)، لعدم ملائمة طبيعته الواقع العنفي الذي تتميّز به يوميات الجزائريين، إذ كانت مجازر الاحتلال يومية، ولم تعد الرسائل التحررية التي يمرّرها المسرح بين السطور مبرّرة، لقيام فعل الثورة الذي كان يدعو إليه.
حصل ذلك الانحسار لصالح المسرح الملتزم الذي كانت تمثّله الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني، التي تأسّست عام 1958 بقيادة المسرحي مصطفى كاتب، وزارت عشرات الدول الصديقة للثورة الجزائرية.
غيفارا في الجزائر
كانت بناية المسرح الوطني التي تعود إلى بدايات النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، في ساحة بور سعيد بالجزائر العاصمة، من أولى المؤسسات التي تمّ تأميمها مباشرة بعد الاستقلال عام 1962.
وعرف المشهد المسرحي إنتاج 20 عرضاً مسرحياً حتى عام 1966، بما جعل تشي غيفارا يقول أثناء زيارته للجزائر: "شاهدتُ مسرحاً في بلاد الأحرار".
ولئن كانت الرسائل السياسية التي مرّرها المسرح الفكاهي قبيل الاستقلال، تمسّ الاحتلال الفرنسي، فقد أصبحت طريقة تسيير الشأن العام، من قِبل النظام الحاكم ،الذي يستند إلى الشرعية الثورية، هو المقصود من تلك الرسائل.
وإذا أخذنا مسرح عنابة مثالاً، سنجده أنتج ما بين عامي 1974 و1980، عروضاً فكاهية بنبرة سياسية، هي "الطمع يفسد الطبع" لنور الدين الهاشمي، و"حسنة وحسان" لامحمد بن قطاف، "والخطبة ديال سيدنا" لمحمد كاراوازن، و"على جال كرشو يخلي عرشو" لجمال مرير.
شجاعة الضحك
يقول الباحث المسرحي أبو بكر سكّيني: "إنه بالعودة إلى سياق العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال الوطني، نقف على صعوبة النقد السياسي، بالنظر إلى قيام الحياة السياسية على الحزب الواحد، وتبعية جميع المسارح وقاعات العرض للحكومة".
يشرح فكرته: "كان النظام أحادياً، ومتبنياً للقيم الاشتراكية. وكان يسخّر الفنون وفي طليعتها المسرح، لتمرير تلك القيم، فكيف يقبل عرضاً يسخر من خياراته، في مسرح مموّل من طرف الحكومة نفسها".
مع ذلك، يقول محدّثنا، "تجرّأ كُتّاب ومخرجون وممثّلون على نقد بعض الانحرافات التي ميّزت خطاب وتسيير أنظمة الرؤساء الثلاثة، أحمد بن بلّة، وهوّاري بومدين، والشاذلي بن جديد.
ويتدارك بالسؤال: "هل كان ذلك شجاعة وسعة صدر من الحكومة التي لم تسجن أحداً منهم، أم كانت حيلة للسماح ببعض النقد وإعطاء فرصة للمواطن كي يتنفّس؟"
ضحك أسود
خلال ثمانينيات القرن العشرين، خفّت قبضة المراقبة السياسية على الأعمال الفنية، وانتهت بإقرار التعدّدية الحزبية، لكن العروض المسرحية الفكاهية توجّهت أكثر إلى الضحك الأسود، في شكل نقد للذات والظواهر الاجتماعية، فكأنها أرادت القول إن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل المجتمع.
مثّل هذا التيار صراط بومدين (1947- 1995)، من خلال أدواره في عروض كثيرة منها: "العلق"، و"صيّاد الملح"، و"حمّام ربي"، و"الخبزة".
أصبح صراط بومدين نجم الجماهير ومطلبهم، وكان المواطن الجزائري يأتي ليشاهد نفسه في مرآة المسرح، وهو يصارع من أجل لقمة العيش، في واقع سياسي منخور بالتسيّب والشللية، وإهدار المال العام، فكانت القاعات التي يمثّل فيها تمتلئ عن آخرها.
حاز بومدين جائزة "أفضل تمثيل رجالي"، في مهرجان قرطاج الدولي للمسرح في تونس عام 1986. وكان من بين منافسيه الفنان المصري عبد الله غيث، الذي صعد إلى منصّة المسرح لتهنئته.
مسرح نقدي
توّج عرض "خاطيني" للمخرج أحمد رزاق، النقد السياسي للمسرح الفكاهي في الجزائر، الذي ركّز في العشريتين الأخيرتين، على العروض أحادية الممثل، بأن تناول بنبرة كاريكاتيرية ساخرة صورة الرئيس، مباشرة بعد الحراك السلمي الذي خاضه الجزائريون عام 2019.
حظي العرض الذي أنتجه مسرح حكومي بإقبال شعبي منقطع النظير، وتوقّع كثيرون توقيفه من قِبل حكومة الرئيس الجديد عبد المجيد تبّون، لكن ذلك لم يحدث.
مهرجان خاص
أطلقت وزارة الثقافة عام 2003 مهرجاناً للمسرح الفكاهي، حمل اسم واحد من روّاد الكوميديا في الجزائر، هو الممثل حسن الحسني المعروف شعبياً بـ "بوبقرة".
يقول محافظ المهرجان الكاتب سعيد بن زرقة: "إن المهرجان جاء ليرسّم المسرح الفكاهي بصفته حساسية مسرحية لها أصولها وخصوصيتها ودورها، في إنتاج الفرجة والوعي معاً. ويشجّع فنّانيه والمشتغلين عليه، من خلال جائزة "العنقود الذهبي".
رهان المواكبة
من جهته، دعا مخرج العرض علي جبارة، الفائز بالجائزة الكبرى في الدورة الأخيرة للمهرجان، المسرح الفكاهي إلى اقتراح موضوعات وهواجس وأساليب جديدة، حتى يواكب تحوّلات التلقي، "فما كان يُضحك الجزائريين في السابق، لم يعد يعنيهم اليوم".
يواصل صاحب عرض "رأس العام": "أنتجت مواقع التواصل الاجتماعي أنماطاً فكاهية جديدة، أصبح لها عشّاقها ومتابعوها، وعلينا قراءة اللحظة الاجتماعية الجديدة، كي لا تبقى عروضنا المسرحية الفكاهية معزولة أو خارج اهتمام الأجيال"