لها في كل شيء سَبْقٌ، في الثقافة والمدنية وفي حرب ال١٥ عام الداخلية… حتى أصبح لكل بلد من أقدارها نصيب.
بيروت المختلفة في ازدهارها وفي نكباتها لم ينقطع عنها نبض الحياة والتميّز. تقرأ وتكتب وتنشر وتحارب و تغني لليلى وللديار، للصيف وللثلج. مساؤها ريشة ودواة، والريح دار نشر، والطير في المدى ورقات. ذلك ما يمكن توظيفه هنا من إشارات "رؤيا" جوزيف حرب، صاحب أضخم ديوان شعري في العالم، (المحبرة).
ولأن ليلى اسم لا تقيده دلالات ولا تحصره جغرافيا بين زواياها، فلكل حكاية من اسمها حظوة أيضاً. لا هوية تحتكرها ولا بلد. معانيها تسمو على المفردات في العربية الصحراوية والجبلية والبحرية وما أمامهنّ وما خلفهنّ من الفصحى والمحكية.. وتسمو على الديار ومن سكن الديار.. على الحب والشغف. لم تتفرد بها تراجيديا العشق الذي افقد صاحبه عقله، أو ما اشتق عنه في شؤون كثيرة ومتعددة في الحضر والباديات. ليلى امرأة.. و ليلى ليلة ليلاء.. وليلى المدينة بين سيدات المدائن وهي السلم في الحرب والحرب في السلم.. وهي البلد في كل بلد و في اللا بلد.. وهي الدلالات المفتوحة في الشعر والطرب، والرموز الخفيفة والثقيلة في النصوص الصيفية والشتوية الغامضة.
قبل العام المشؤوم ٧٥ م ألّف ولحّن زياد الرحباني "الحالة تعبانة يا ليلى" ولم يدرك أن كل فرد في الوطن يجيد التربّص و الاستنباط ليس من بطن الشاعر وإنما من جوف الكمنجات ومن صوت جوزيف صقر الذي تحول من منشد كورالي إلى نجم في المسرح الغنائي (كانوا يلقبونه حنجرة زياد). ووضع الاثنان في مناداة ليلى ما يوازي بدائع الموشحات بمقاماتها الشجية.
الحالة تعبانة ياليلى، بلهجة الشارع اللبناني، تجاوزت
نشيدها العفوي و تفاعلت تدريجيا مع أمزجة الناس وعواطفهم وظروف حياتهم. أينعت وأزهرت وانتشرت حتى راح يرددها كلٌّ على هواه وكلٌّ على ليلاه، لعيون رفيقات الهوى و لمنحنيات الضياع و للأزمان والأوطان. وصاغ البيروتيون معان مختلفة لتلك الغنائية خفيفة الظل قبل وبعد ان اختلط في مدينتهم دم الطوائف والأحزاب من اليمين إلى اليسار إلى الوسط وكل من حمل على عنقه بيعة أو ولاءات داخلية أو خارجية وكل من نزل من "نحلة الجرح القديم إلى تفاصيل البلاد". حتى علقت مفردات ذلك التعب الغنائي بتقلبات الحياة ونوائب الزمن وتحولت من ليلى العابرة في مقام العشاق (السيكاه) إلى ليلى الغائرة في خضم الشواهد والبينات والبيانات وإلى "دالة" بقيم مطلقة في تشفير كل حدث و حديث.
ظلت "الحالة تعبانة يا ليلى" حية تتنقل بين مدن الشرق، دون ترتيب هجائي لأسمائها، ليس لأسباب خاصة بالضرورة وإنما لأمور شائعة عامة وأحداث أهلكت الناس واحرقت شغفهم بالحياة وحرمتهم من حق الاستقرار والنمو. و ظهرت من حين لآخر على لوحات يحملها شباب في الأرض المحتلة لأغراض مختلفة. لكنها إيحاء بأن ليلى هناك امرأة خلفها بلد منكوب.
أن يأتيك الإلهام من الزوايا الخبيئة فأنت لست بالضرورة شاعراً فذّاً وبالتأكيد لست نبياً عامّيّاً. هو تعب خَفِيّ. حتى في حالة زياد وهو يلقنك ما يفكر به وينتجه، وليس بالضرورة ما يحس به، يجعلك تصدق ما قد يشكّل عواطفك ويطربك في كل (غَنَاويْه). و تدرك بأن بعثرة محببة، تمتد بين إرخاء أصابعه على مفاتيح البيانو وأفق بعيد غير مرئي، تمثل نسق عبقري متوازن وكثيف للغاية.
عزيزي القارئ إلى هنا ونكتفي بهذا الحديث وعنوانه الغنائي الذي هرول إلى مزاج تحت وطأة التعب (بمعناه الظاهر)، و في عمر لم تعد فيه المناورات ممكنة. ربما هو أمر اعتيادي. لا ادري. لكن "الحالة التعبانة" بأبعادها الخاصة والعامة نصبت فخّاً جميلاً اسمه ليلى لتُروَى بكلمات بسيطة ومعها ما يمكن إسقاطه بعد أن دارت الدوائر على "ليلانا" وتاهت عنها الخطى. والآن على القارئ أن يتقبلها بمزاج عمودي وأفقي ومائل ليلتقي بأبعادها المختلفة وإيقاعاتها وصداها وما يفتح الخيال من ابواب في أدمغتنا المتعبة جراء الركام اليومي من أحاديث الناس في السياسة وانعكاساتها.
احمد عبد اللاه