حينما تناثرت الادخنة من بين أيدي أماكن الشواء ، كخط قطار متقطعة أوصاله، في الطريق المؤدية إلى القلعة اتضحت الرؤية ، فتبين أن هناك من يرقب المدينة بمنظارة ، ذي العين الواحدة ، مسند ضهره إلى حبال تدلت من السارية العظيمة لسفينته ، ومعه اسطوله الصغير ، ذي العشر السفن الخشبية ، المليئة بالاشرعة ،ومندفع إلى المقدمة ، فيعتليها ، تدفعه حماسة شديدة ، والبحارة ملتفين من حوله ، والموج يضرب حواف المقدمة ، فيبلل حذاءه وسرواله ، ولا يبالي ، مأخوذا بانتصاراته ، يصيح :
- اغرقوا ( داريا دولت) واستعدوا لمعاودة الهجوم على القلعة .
ظهرت القلعة مجعدة الضفائر، مغموسا شعرها بالابخرة ،تغوص في جبل اسمرحامل لها ، ويعلو حتى يدنو من المدافع القديمة ، ثم ينتهي .
دفع بمنظاره لمساعده ، وكمن يبحث عن شيئ ، داخل المدينة ، قال :
- عزيزي سوليز ، أنظر جيدا ،أنظر لهذه السواحل هل ترى أثرا لأقدامنا .؟
نظر مساعده عن قرب فراى مدينة ، رماها قدرها ، عند شاطئ ساحر، ثم اتسخت واتسخ شاطئها ، بدت (عدن) في عيون الوافدين، كالحة ، منطفئة ، بدت في صيفها الحار ، باردة ،كئيبة .. تنتظر حدثا استثنائيا ،ولعلها تطلعت عند غروب شمسها الحارقة ، عودة قبطانها، ذي القبعة الداكنة ، والهندام النظيف .
، ولأن هذه المدينة ، عابثة ، عابرة ، تجيد أن يراها الغرباء ، امرأة كعوب ،فعمدت للمساء ، كي يظهر سمرة ثديها الناشف ، وعمدت لصفحة البحر وجعلته مشويا، وفهم ذلك الكابتن
فتنفس الصعداء ، ولذلك لم يلحظ احد وجود سفنه بالقرب من قلعة(صيرة) ، خلد للصمت لبرهة ، أبعد أحشاء سمك السردين بقدمه ، ، تذرع بإقفال مقبض ساعته مرات عديدة ، كي يخفي توتره، أمسك بفتلة شاربة الكث وطواه بخشونة ، يلجأ لذلك حتى لايرى وجهه الطفولي ،كان يخشى أن يتحدث ويقاطعه أحدهم فكان يستعين بصوته الجهوري، لافتا إليه بحارته دافعا بقبضة يده إلى السارية ، متلقفا تيارات هواء المحيط بصدره وصدغه وذراعيه العريضتين ، جاعلا معاونيه خلفه ، لوى عنقه فبصق، ثم تسائل بصوت اجش :
- من عبث بمدينتي ؟
ران صمت رهيب .
أردف :
- اترون شواطئها !!
نكس رأسه وبصق مرة اخرئ :
- يا للبحار السبعة ، انها كالمغشي عليها، لا أرى سوى قمامة ، وحثالات. أين الصهاريج ،؟ أين المأذن؟
اين مناراتي؟ اين رائحة البخور ؟ ياللعار ، أين جنية العقبة ؟اللعنة هل ترون شيئا من انفاسي.
ثم استدار غاضبا نحو المدينة وصاح :
- أين تاج مملكتي ياعدن؟
توقف الجميع عن إصدار أي حركة شاخصين نحوه... آنئذ استشعر بطعم المرارة ، فصك اسنانه ، وغص بلعومه ببقايا هزيمة .
ايقظ ظهور سفن قديمة، ذات اشرعة، وهي مقفلة عائدة للمحيط الهندي فضول سكان المدينة، فتسابقوا يتسلقون قمة القلعة، اسرع الصغار يبحثون عن مكان مناسب ليروا الاسطول الملكي مبحرا الى الاعماق وتبعهم الكبار ايضا ، كان المنظر مؤثرا، شاهد الجميع ، قبطان يتلو صلواته، وقطرات دمعه تتناثر فتبلل شاطئا تكثر فيه الخطايا، فتمحوها.
اتممتها صبيحة 25 من مجد الشمس التي لاتغيب عنا
العام 2020