أعرف، كل الوجوه ستتغير ملامحها بعد مضي هذه السنوات الطويلة، وحده
وجه أمي سيبقى على حاله، لن يتغير، هي هكذا منذ أن أدمنت عيناي النظر إليها، ناحلة، هادئة،ولا ريب سأجدها أول المستقبلين لي، بوجهها البشوش وانفراجة فمها الخاوي، كم أشتقت إليها، ولدعاباتها المرحة، ولا أكذب ان قلت إنها وحدها من أعادتني إلى الديار ؛ لسبعة عشر عاما قضيتها في أحشاء ألمانيا، قاعد أستمع لمحاضراتي، متسكعا أحيانا، ومتفلتا غائبا عن الوعي في أحايين كثيرة، ولا نية لي للعودة، إلحاحها الدائم لي أربك مخططاتي بالبقاء، قلت لها يوما: "كفي أمي ، بقي عامان واحصل على الدكتوراة " ولكن عبثا :" اتريد رضاي، تعال إذن" وتفعل نفس الشيء، غسل سماعة الهاتف بدموع بكائها الحار.
وها قد عدت، البيوت التي تركتها أول شارعنا، زاهية، متقاربة أراها الآن منهكة، متباعدة، أوجعني حد الأسى وانا ارى تلك البيوت التي لم تستطع الحفاظ على لونها فيما مضى، قبالة بيت (عمو سامي) بائع البطاط "الحمر" والذي يبعد عن بيتنا قيد خطى لذيذة وقد أصبحت ركاما، .
مرغم أرجعت بصري للوراء، رايتها واضحة، دققت النظر، أهي خطاي؟، نعم هي خطاي وأنا أمطها في إثر خطى أبي ذاهبا إلى المسجد وهو يتقدمني بخطوتين ونصف، يتعجلني ؛ .. ساعة رأيتها أعادت لي هدوئي .
وسط دهشتي تثاقلت قدمي واصبحت لا تطاوعني، ودون سابق إنذار جمدت فجأة في مكانها؛ أربكني الأمر، لم تفعل بي هذا الأمر قبلا، أخذت أبحث عن السبب، طويت عنقي مرات في الأرجاء، فعلت ذلك وهناك من يتوجس وقوفي وسط الشارع بلا حراك، وبلا هدف، رجل ببدلة وكرفاته وسط حشد من المازر، أكيد سيثير الريبة؛ لا أعلم ما الذي قادني كي أرفع رأسي متطلعا، لحظتها تسمر كل شيى أمامي ؛بلعت ريقي آه شرفة زوف هي بعينها لم تتغير، تسارعت أنفاسي في حركة لا أرادية منها؛ ببطئ شديد أنزلت بصري وقرأت على صفحة باب الردفة المغلقة" بابتلال لاي بهادر " . ثم عاد بصري يعلو ويلعق الشرفة.
مازلت أتذكر جدائلها الطويلة وهي تمد سبابتها عاليا، كانت زوف أطولنا، تحب أن تجيب على الأسئلة التي يصعب علينا حلها، كانت ذكية وكنت خجولا منطويا على نفسي، جالسا في الخلف، تبتلعني الزاوية وكانت تسكن الصفوف الأولى .
تذكرت يوم زعقت المعلمة، حينما رأت المدير قادما باتجاهنا زاما شفتيه: "قيام" فقمنا أشار بكفه:" جلوس " فجلسنا؛ توجست خيفة وهو يمسح بنظارته السميكة الصفوف الاولى، ويطلقها على وجوهنا الطافحة بالغباء، أدركت بحدسي أنه يحمل إلينا شيئا ما؛ استدار نحو المعلمة التي بات صدرها يعلو وينخفض بشكل لافت، رفع كفه تجاهنا وقال:
- هل يروق لك هذا المنظر البنات في الأمام والأولاد في الخلف؟ هل هذا عمل تقدمي؟ ماذا أقول لسكرتير منظمة الحزب أن رآهم هكذا؟ماذا تظنين انه سيكتب في تقريره، هيا قولي! كرر نظرته الصارمة لها وهي تشيعه بنظرها وأقفل راجعا .
أعادت توزيع صفوفنا في المقاعد، كان حظي أن أجلس بمحاذاة زوف، يومها أحببت هذا الرجل الذي يدعونه المدير ، وأحببت التقدمية، بل وسكرتير الحزب الذي لم التقه يوما .
كم حدقت النظر إليها وفي فمي ابتسامة، وكم أدارت عينينها في محجريهما ضجرا ،
في الأخير لا أعرف ماذا قالت للمعلمة فطار مقعدي للمكان الذي أتيت منه.
عصرا دفعت بمتجري الصغير لأختي سلمى، وأعطيتها اثنتان من شوكلا (أباعود) التي تحبها أجرة عمل للساعة التي ساتغيبها، وأعلم أنها لن تكتفي باثنتان، ستختفي اثنتان أخريان،جذبت صديقي حسن من كتفه، وهرولنا جهة الشرفة.
رميت بحجر إلى الشرفة وأسرعت في الهرب، اختفيت تحت إحدى المركبات؛ حينما انفتح باب الشرفة، سددت براحتي فم حسن كاتما ضحكته، ورفعت بصري إليها متلصصا.
يالها من ذكريات، قلتها وقد اشرقت تقاسيم وجهي..الآن احس بها، ايه والله احس وكأني بصدد عمل طائش، تلك النظرة الغبية التي اتميز بها عادت للظهور بعد انقطاع ، اه ليت حسن امامي الان ،شعرت بالحبور كما لم أشعر به من قبل. عدت ادراجي مندفعا ، مشيت، وعند وصولي تحت الشرفة صحت :- زوووووف
بعدها أعطيت الأذن لساقي أن تسابق الريح دون ان انتظر ردا.
تمت 17/12/2020
عدن اليمن الجنوبي
الإهداء:
إلى زملاء دراستي الابتدائية .
وإلى بائعة الفشار الجالسة بهدوء لافت بجانب مدرسة بارزعة،(مدرستي) كانت فيما مضى طالبة ذكية، ها قد عدت عزيزتي ومعي الفيزياء التي تحبينها.