قصة قصيرة
أشتد وقيع البرد، فشعرنا به يقلص أطرافنا، أربع صبية وعند حافة اللحاف تكورت أخر العنقود، حيث بعض الدفيء المنبعث من تنور المطبخ، يسري الى أوصالها الغضة، أمي تتعنى في ان تقترب قدر الامكان إليها، وبلحاف واحد تتغطى الأسرة كلها، نحن الأولاد وذات الخمس، كثيرة البكاء، وأمنا الذاوية التي حشر ت للتو ضوء الفانوس عند حجرها وهي تدق (بالمنحاز) بقايا خبز العشاء، لتتلقفه في الصباح أفواهنا الستة.
أبي راعي الحيطان المتأكلة هذه، لم نسمع عنه شيئا منذ وقت طويل، تقول أمي عن ذلك وهي تطالع وجه أختي الذي يشتعل شوقا له، أنه ذهب ليصنع لنا بيتا أخر غير هذا، بيت السماء تستمد لونها منه، ويقع في بلاد البحار البيضاء، ولا أدري أين تقع تلك البلاد؟، عنقها يطول وتذهب تجاعيد وجهها ويرق صوتها حينما تبدأ في ذكر أبي والبحر ذي المياه الملونة، وعادة ماتجلس وعنقها يلامس ركبتيها، ترفع كسرة الخبز وتوقعها في فم صغيرتها، ثم تتفتح أوردة خديها فاضحة تلك الابتسامة التي أدركتها عوامل التعرية، مظهره العقد ناقص لؤلؤة بيضاء، تترك لعقلها ان يسرح بعيدا، تتنفس الدخان الخانق الصادر من بين حصاتي القدور ملئ رئتيها، وتعاود ضم قبضتها وكأنها تلم شيئا يتفلت منها، ونحن قبالتها برقاب فارغة متطلعة اليها وقد تعالى زفيرها وزفيرنا معا وكأنها تحدث نفسها، تقول : سيعود يا اولاد لقد وعدني بذلك .ذهب ليجد لنا مكانا عند البحر وتوه عائد
أمي بلهاء فأبي لن يعود أبدا، خالي قال ذلك.
هكذا هي منذ ايام ، تتخيل أشياء غريبة، فعند البئر ، وهي تغسل ثيابنا، والظلال منتصبة، حكت لفتيات القرية كيف ان ارجلها غاصت في رمال البحر، ولم تسعفها قواها في انتتشالهما، جدها لحظها فعاد ورفعها عاليا ثم افلتها وهي تصيح باكية، وأعاد الكرة مرة ومرات ، وفي كل مرة يرميها اليه ، ترى البحر بلون اخر، فتارة أحمر ، وتارة اخضر وابيض، ولا يتوقف حتى تراه بكل ألوان الطيف، وحتى يسمع قهقهاتها تدوي في الشاطئ كله.
ولكن جد أمي مات بداء الربو قبل أن تلد جدتي أمي لأعوام كثيرة، خالي الذي يكبرها قال ذلك.
تذكرت قوله :دعك من ترهات أمك بني، أبوك مات وهو يدافع عن شرف هذا الوطن .
حكى لي خالي عن بطولات أبي، فقبل موته ، نصبوا للانجليز كمينا، حجارة مكومة وغطوها بلحافات أتى بها ابي من منزلنا، وبنار مشتعلة في الوسط، تتساقط الألف رطل من الباروت عليها، ولكن في هذه المرة، فطن الطيار للمكيدة، ولم تنزل الحمولة إلى أصنام الجبال بل إلى رأس أبي المسكين.
أشعلت عود الثقاب، وتسللت يدي للفانوس فتوهج، وعند الكوة المتفحمة وضعته، وعدت الى فراشي مرتجفا، تطلعت اليها فرأيتها واقفة حيث يخفي الظلام الأجزاء التي تظهر المشاعر، بدت بقائمتين صلبتين وضفيرتين كثيفتين وطويلتين، وحتى واللحم لا يكاد يظهر في ذراعيها إلا أنها بدت فتية.
فجأة سمعنا طرقا قويا على الباب، تساءلت : من سيأتي في هذه الساعة المتأخرة من الليل .
اقتربت أمي بخطوات وئيدة وقالت: من؟
جاءها الصوت حادا : افتحي يا مره لقد عدت.
جذبتها من مئزرها: من هذا أمي ؟
:- انه أبوك .. قد عاد ، وعادت معه آمالي الضائعة بني.
ااااه ياخال